ربما لم يعد أغلب الشباب في السعودية يساقون بشريط داعية أو محاضرة عالية الصوت يلقيها كل من خدمته الظروف ليقول ما يشاء بعيداً عن المراجعة والمساءلة، فالشباب يتغيرون ويغيرون ما حولهم من المفاهيم المتثائبة، ولم تعد اهتماماتهم حبيسة الأيديولوجيات الأممية القديمة.
اهتمامات الشباب تختلف اليوم عن اهتمامات الدعاة بشكل كبير، وهم ينظرون لأقرانهم في العالم ـ وليس في الحارة كما كان في السابق ـ ويشاركونهم نفس الاهتمامات والأحلام تقريباً.
من حق الداعية (الأممي) أن يتحدث عن آرائه الخاصة حول ما يجري في فلسطين والعراق وأفغانستان مثلاً، لكن عليه في المقابل أن يعرف أن قناعات الشباب تغيرت، وأن شريط الدعوة يفقد كثيراً من جمهوره لمصلحة العولمة وفضاءات الإنترنت غير المتناهية. والداعية لا يستطيع أن يمسك بعقل شاب يُمضي أغلب وقته في قراءة الروايات ومقاهي الإنترنت ليحدثه عن مآسي الأمة، مأزق الوعاظ والدعاة اليوم ليس في حجم الفرصة المتاحة، فهم في كل مكان، لكن المأزق الحقيقي في كساد البضاعة الأممية التي لم تعد تقنع الشباب في عصر لا يؤمن أبداً باحتكار المعلومات ويتواصل فيه الشباب بكل لغات العالم دون قبب أبوية!
الداعية اليوم يكاد يودع الساحة ـ أو هو على وشك ـ ما لم تتطور الوظيفة ويتغير الطرح.. صحيح أن المناشط الدعوية أكثر من المطلوب أحياناً، لكنني أتحدث عن التأثير وإقناع الناس بما يُقدم، وهنا تتضح الفروق لمن يقرأ التحولات العميقة بشكل جيد، إذ يكفي أن الشباب الذين يحضرون المناشط الدعوية أنفسهم أصبحوا يتساءلون بعد كل محاضرة: ماذا قال المحاضر؟ وهل يمكن أن يكون كلامه صحيحاً؟ ولماذا لا يجيب عن أسئلتنا الحقيقية مع الحياة والحداثة والعولمة التي نعيشها؟ وهل هو يدعو أم يعظ؟ إنها أسئلة ما بعد التابو الكبير الذي طغى لعقود طويلة.. أيام (التابو) واختزال الخطاب لم تكن هذه الأسئلة تقال حتى في الخفاء، فالاستسلام الجماعي للصوت الأعلى جعل أغلب الناس لا يتساءلون عن صوابية أي شيء يقال طالما أنه قيل عبر المنبر أو الشريط. الأسماء الكبيرة من الدعاة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي يعيشون اليوم في عالم جديد ومتغير، أكاد أجزم أن كثيرا منهم لا يعرفون الكثير عن تفاصيله ولا عن أحلام شبابه، بل إن أغلبهم لا يُدركون حتى اليوم أننا جُزء من عالم ما بعد الحداثة ولو بالأفكار والتطلعات المشروعة على الأقل، ولم يعد مجدياً تعليل انصراف الشباب بالقول إنها فتن كبيرة وأعداء أمة، الواقع أنه لا فتن كبيرة من تلك التي يتحدث عنها بعض الدعاة، بل إن الأمر أبسط من ذلك بكثير، فالشاب الذي كان يهتم بأفغانستان وفلسطين ـ كمثالين صارخين على تلك الأيام ـ ليس هو نفسه شاب اليوم المستنير الذي يقرأ ويأخذ المعلومات من أكثر من مصدر ويحرص على الفهم قبل أن يقدم عقله كعربون صداق لأي أحد، وهو يحاول جاهداً أن ينصر قضاياه الخاصة مع الحياة قبل نصر الآخرين إن صح التعبير، وهذا حقه.
طبيعة الأحداث التي كان يشتغل عليها وعاظ الثمانينات والتسعينات فقدت قيمتها مع مرور الزمن ومن الصعب ترحيلها إلى عصر لا يشعر بكثير ذنب تجاهها، ويبدو أنه لا خطابات مواكبة لدى بعض الدعاة تسد العجز وتحافظ على طلاوة الخطاب إلا تلك القضايا الديناصورية ـ الثابتة ـ التي فقدت جزءاً كبيراً من بريقها بسبب تصرفات أهلها. صحيح أن تلك القضايا بلا حل إلى اليوم، لكن الشباب الجدد لهم مشاكلهم أيضاً، وهم لا يرون مبرراً وجيهاً ومُقنعاً في أن يعطلوا أحلامهم في التعليم والوظيفة والسفر والتواصل الثقافي مع الحضارات بسبب مشاكل أممية تورطت فيها أجيال سابقة، وهذا ليس انسلاخاً كما يتصور البعض بل هو إظهار لذوات وأحلام مشروعة كانت مغيبة خلف (تابو) عريض، وهنا يمكن القول بتجرد إن كل داعية لا يضع شروط العصرنة أمام عينيه قبل مخاطبة الشباب سيخسر كثيراً من أسهمه، وهو ما يحدث اليوم بجلاء، حتى إن اعتراض جل الناس ـ فضلاً عن الشباب ـ على الفتاوى الرافضة للتحديث هو تعبير نوعي وحضاري عن البون الشاسع بين بعض الدعاة والمجتمع، فالدعوة القائمة على الأممية والمصادمة للتطور والمساوية بين الوطن والفندق لم تعد مقنعة لأحد، حتى لو انتقلت للفضائية بدلاً عن الشريط، وحتى لو غيرت الديكورات واستعانت بالدف كبديل عن الموسيقى، الشباب يكتشفون أحلامهم وأوطانهم في عالم متسارع الخطوات، ومن الصعب مواكبتهم بمحاضرة أو شريط وعظ، وبالتالي فالانصراف حتمي ما لم يعِ أولئك الدعاة أن القضايا المطروحة أيام (التابو) قد انتهت أو بالأحرى لم تعد تلوي إليها الأعناق! وأنه لا بد من البحث عن طرق جديدة للوصول إلى عقول الشباب، ليس أقلها الابتعاد عن التزمت والتقريع والأممية.
هنا أجيال جديدة تستحق الأفضل ومن حقها أن تعيش كأقرانها في العالم دون تخويف أو مصادرة للحرية باسم قضايا ديناصورية عفا عليها الزمن، وعلى الدعاة أن يحتملوا المزيد من الأسئلة، وربما الصراحة المزعجة أحياناً.