عمر العمري
تعقدت البيئة الحاضرة في معظم أقطار العالم، واختلفت صورها وألوانها، بحيث صارت مجاراتها أصعب من مجاراة البيئة البدائية البسيطة وأعسر مراسًا. وقد نتج عن ذلك أن الإنسان صار أكثر احتياجًا إلى التربية.
إن عالم الأمس غير عالم اليوم، وعالم اليوم غير عالم الغد، ولهذا فإننا بحاجة إلى تربية نامية متطورة تنظر دائما إلى الإمام.
فما دمنا نجهل ما سيأتي به الغد، وما دمنا لا نعرف على وجه التحقيق نوع المشكلات التي ستجابه أطفالنا في معترك الحياة المستقبلية، فإن من واجبنا أن نهدف في تربيتهم إلى تنمية قدراتهم ومواهبهم، وتدريبهم على التفكير السليم المستقل، وعلى حل مشكلاتهم بأنفسهم دون انتظار من يحلها لهم.
وفي نفس السياق من أقوال الإمام على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ «لا تعودوا بنيكم على أخلاقكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»، إنها بحق كلمات عجيبة من الإمام العادل والخليفة الراشد ـ رضي الله عنه ـ مليئة بالحكمة والإلهام، عميقة المعنى والدلالات. وفي الأدب العربي كذلك «إن أولادكم ليسوا أولادًا لكم، ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكاً لكم، أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تستطيعون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم، لأن لهم أفكاراً خاصة بهم، وإن عليكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم، ولكنكم عبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم، لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس».
وكما يحتاج الفرد إلى التربية فإن المجتمع أيضا يحتاج إليها من أمرين رئيسين أولهما: ليحافظ على تراثه الثقافي وقيمه وهويته وما يميزه عن بقية المجتمعات ونقلها إلى الجيل الجديد، وهو بدوره مسؤول عن حمل الرسالة إلى من يليه وإلا نبذ وأهمل.
وثانيهما لتعزيز تراث المجتمع الثقافي وتنميته، لأن كل جيل حريص على نقل تراثه الفكري والثقافي إلى الجيل الذي يليه، فهو مسؤول أيضاً عن تجديد تراثه وتعزيزه وتنميته مجاراة لروح العصر وإلا كان مجتمعاً رجعياً وتخلف عن ركب الحضارة، ولا شك فإن المؤسسات التربوية والتعليمية هي حارسة تراثنا الثقافي؛ وهي من تصونه، وتجدده وتربط الحاضر منه بالماضي، وتهيئ الحاضر للمستقبل لنسير في ركب الحضارة، ونصل إلى مستقبل أفضل وأسعد.
ويذهب علماء الاجتماع إلى أن الروابط التي تشد الناس بعضهم إلى بعض وتوحد صفوفهم، إنما هي في الدرجة الأولى، مساهمتهم جميعا في تحقيق أهداف مشتركة، وفي الأدب الغربي ورد ما يعزز هذا المعنى «يعيش الناس هيئة جماعية بفضل الأمور التي يشتركون فيها. والسبيل إلى حصولهم على هذه الأمور المشتركة اتصال بعضهم ببعض. أما ما يجب على الناس أن يشتركوا فيه لتتألف منهم جماعة أو مجتمع فهو: الأهداف، والعقائد، والأماني، والمعارف، ومعنى هذا أن يكون بينهم تفاهم أو تشابه فكري كما يسميه علماء الاجتماع..».
ولا شك أن التربية ضرورة فردية من جهة وضرورة اجتماعية من جهة أخرى. فلا يستطيع الفرد أو المجتمع الاستغناء عنها. وكلما ارتقى الإنسان في سلم الحضارة ازدادت حاجته إلى التربية، وخرجت هذه الحاجة عن حد الكماليات إلى حد الضروريات، والتربية عملية دائمة مستمرة، لا تقتصر على عهد الدراسة في المدرسة، بل تمتد إلى حياة الفرد بكاملها من المهد إلى اللحد، هذه الحياة التي تبدأ من مرحلة الاستيعاب بالتقليد وتنتهي عند مرحلة الإبداع والتبصر والاستنساخ.