كنت قد تحدثت في النثار السابق عن الخلل في عنصر (القيادة التربوية) داخل مدارسنا، الأمر الذي يصيب العملية التعليمية بالعطب والفشل، باعتبار زعمي (المبرر) بأن القائد التربوي -وليس المعلم دائما- يعد العنصر الأكثر تأثيرا في نجاح أو إخفاق العمل التعليمي، إذ هو (المحرك) إدارة وتوجيها وفعلا لبقية عناصر المشهد التعليمي العام!

فقلة من هؤلاء القادة الآن يتمتعون بمواصفات القائد (أولا) ثم القائد التربوي (ثانيا)، بسبب غياب أو فقد أبرز تلك المواصفات، كغياب الوعي الثقافي في ذهنية القائد الجديد، مما يغيب معه هاجس اللحظة الحضارية التي يجب على مؤسسات التعليم أن تعيشها بكل أبعادها، من أجل أمة تبحث من جديد عن فردوسها الحضاري المفقود، إضافة إلى عدم امتلاك القادة الجدد مهارات التواصل الاجتماعي مع بقية العناصر الفاعلة داخل المدرسة، منتهيا في نثاري السابق إلى عجز القائد التعليمي عن التعامل المثالي مع جوانب القصور التي قد يصادفها من بعض مرؤوسيه من المعلمين والإداريين ووو...!

وها أنا أكمل بقية تلك الأسباب التي أفضت إلى خلل القيادات المدرسية الراهنة:

(1)

القائد الناجح هو الذي يستطيع التحكم في انفعالاته مع كل الشخصيات والأحداث التي يصادفها في يومه الدراسي، وبالتالي فعندما يطلق القائد لمزاجه العنان يصعب على من هم حوله التعامل معه، لأنهم سيضطرون للتعامل مع شخصيات متنوعة في آن واحد، مما يجعل العلاقة بين الطرفين على كف عفريت، لا تلبث أن تستقر إلا وتضطرب مرة أخرى! ولا شك أن هذه التحولات المزاجية تمنع القائد نفسه من الاضطلاع بأعماله على وجه الدقة والاتزان!

ولعل من أبرز مظاهر ذلك العبث المزاجي تأرجح القرارات وتنوع الأحكام، مع أن الحالة المقابلة واحدة في كل مرة، فالمعلم الرائع اليوم هو المعلم الذي يستحق العقاب غدا، مع أن المعلم هو ذاته في كلا اليومين، شخصية وعملا وسلوكا!!

(2)

ثمة قادة تربويون يضعون جل اهتمامهم على بعض تجليات المسؤولية التعليمية، وإهمال غيرها مما قد يكون أهم تأثيرا في تحقيق غايات التعليم الحقيقية! فتجد بعضهم يحصر دائرة الاهتمام على مشهد الطابور الصباحي، وما يرتبط به من هاجس مراقبة من (سيوقع) قبل (الخط الأحمر)، ومن تسول له نفسه (التوقيع) بعده، بعد أن يكون قد قام بفحص عيني دقيق لمن لم (يقف) شامخا في (الطابور)!

ولا شك أن ذلك الاهتمام (الرقابي) المختزل يفضي إلى إهمال الكثير من أهداف التعليم، فليس للكشف عن الطلاب الموهوبين وصناعة البيئة التعليمية الممكنة لهم أدنى اهتمام مع انقضاء الطابور الصباحي (أو غيره من الشواهد التقليدية للتعليم، كدفتر إعداد المعلمين أو متابعة مراقبتهم لدورات المياه!)، بل إن بعض هؤلاء القادة لا يعرف (من الأساس) المشروع التعليمي الرائد (موهبة): فكرته ومكانه ونشاطاته، وبالتالي فتظل مسألة ربط موهوبي المدرسة بالموهوبين الآخرين غائبة حتى آخر تغريدات جرس الانصراف! إضافة إلى تلك المهملات المهمة، فليس في ذهنية (الضبط) لقادة (الميدان) أية فكرة رائدة لإقامة علاقات تعليمية واجتماعية وثقافية مع الواقع المحيط الذي يمثل الحي أبرز مظاهره، ومع المؤسسات الثقافية والأدبية والرياضية في الواقع الكلي للمدينة عامة!

كما أن الإفراط بالاهتمام بواجبات المعلم أدى -من جهة أخرى- إلى التفريط في حقوق المعلم، فليس في ذهنية الضبط الإداري أي اهتمام بحاجات المعلمين في غرفهم وفصولهم ومعاملهم الدراسية!

(3)

وإذا كان القائد الناجح لا يستأثر دائما بالقرارات والأحكام، من خلال منظومة عمل حوارية تضع الجميع في قلب الحدث، فإن معظم قادة المدارس لدينا يتكفلون بصناعة الحدث التعليمي كله بكافة تفاصيله، وليس للمعلمين وحتى بقية العناصر الإدارية دور سوى تلقي ما يصدر من سعادة القائد وتنفيذه مباشرة! مع أن أولى البيئات في ضرورة وجود مجالس إدارية تحتفي بتفاعل الذهنيات وحوارية الأفكار هي البيئات العلمية التعليمية..

ولعل المفارقة العجيبة أن ثمة من ينادي بضرورة أن يكون للمعلم صوت مؤثر في صياغة منهجيات التعليم عامة، وهو الصامت أبدا داخل مدرسته خاصة!

(4)

أما عن الاختبارات المدرسية فقادة الزمن التعليمي الجديد يؤثرون التنظيم الشكلي لعمل اللجان المعتادة، على تحري الدقة وموضوعية القياس والتقويم، بحيث لا يتساوى الطالب المتفوق مع المخفق في النتيجة النهائية، بسبب الاختبارات المتوافقة مع جهاز (التصحيح) العتيق في كثير من المدارس، والذي يكتفي فيها الطالب برسم أو تظليل إشارات معينة، تكون الفرصة معها متاحة جدا لاختبار قدرات عيون الطلاب على اقتناص الإشارة بكل سهولة من المصدر الموثوق، لتخرج الدرجات من لجان الرصد متطابقة تماما، تجعل الطلاب جميعهم على قدر المساواة الظالمة، في ظل الغياب المرير لتوجيهات كانت يجب أن تكون صارمة وعادلة من القائد التربوي، الذي كان أقصى غاياته أن (يمر) الاختبار (على خير، والسلام!)، أو أن يجد كل شيء ظاهر يجري بسلاسة وسلامة عندما (يمر) هو مع ضيوفه التعليميين على لجان اختبارات العبث داخل المدرسة!!