ثمة من يتجاهل عمداً وليس جهلاً مخاطر النفوذ الإيراني في المنطقة؛ وجوهره وأشكاله وأدواته وراياته. بل ويزعم أن إعلان الحرب على ذلك النفوذ يفتقد القدرة على إقناع الشرائح المنتمية إلى بلدان معنية مباشرة بالنفوذ الإيراني، وبمواجهته بالأفعال لا بالأقوال.
وتشمل تلك البلدان أطرافاً دولية وإقليمية ومحلية يجري التشكيك في جدية استراتيجياتها وتكتيكاتها تجاه الملف الإيراني، وفي مقدمتها إدارة ترمب التي يُعتقد أنها ستكتفي باستخدام سلاح العقوبات الذي لن يترافق مع عمليات عسكرية محدودة هنا أو هناك تستهدف الميليشيات التابعة لإيران، ولن تشاركها في استخدامه الحكومات الأوروبية التي لا تشاطر واشنطن موقفها من الملف الإيراني النووي، وحتى من قضية نفوذ إيران في المنطقة. فضلاً عن أنها تلهث خلف المنافع الاقتصادية جراء رفع العقوبات عن طهران، والتي لا تريد التضحية بها حال تناغمها مع التكتيكات الأميركية.
ولعل الأمر الأكثر أهمية وخطورة هو الزعم أن النفوذ الإيراني في المنطقة، وعلى نحو خاص في أربع عواصم عربية رئيسية هو نتاج لنجاح القوة الناعمة الإيرانية التي تتمثل مصادرها في ثلاثة عناصر أساسية، هي: الثقافة والقيم السياسية والسياسات الخارجية. وتتوافق أدواتها ثقافية ودينية وإعلامية مع أدوات السياسة الخارجية المتمثلة في: التشيع السياسي والخطاب «الثوري» المعادي لأميركا والغرب، والمناصر للقضية الفلسطينية.
وتتلخص مهمة السياسة الخارجية الإيرانية في تنفيذ أهداف استراتيجية أعلنتها إيران عام 2005، من خلال وثيقة تُعرف باسم «الاستراتيجية الإيرانية العشرينية» (2005-2025)، أو الخطة الإيرانية العشرينية «إيران: 2025». وهي تُعتبر «أهم وثيقة قومية وطنية بعد الدستور الإيراني»، تضع التصورات المستقبلية للدور الإيراني خلال عشرين عامًا، وتهدف إلى تحويل البلاد إلى نواة مركزية لهيمنة تعددية داخلية في منطقة جنوب غرب آسيا (أي المنطقة العربية تحديدًا التي تشمل شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وسيناء).
وأعطت الوثيقة أهمية قصوى للمنطقة المحيطة بإيران، والتي تضم خمسة نظم تحتية، هي: شبه القارة، والشرق الأوسط العربي، والخليج العربي، والقوقاز، وآسيا الوسطى.
وثمة من يعد هذه الوثيقة تلخيصاً لما يسمى مشروع «حوزة إيران الحضارية» أو «إيران الكبرى»، والتي تشمل المنطقة الواقعة على حدود الصين شرقًا والمحيط الهندي جنوبًا والخليج العربي غربًا والقوقاز والبحر المتوسط شمالاً.
وبخلاف الهدف المفترض للقوة الناعمة المتمثل في تجسير الفجوات وتسوية الخلافات المذهبية والطائفية، جرت عملية تجييش وعسكرة الأقليات الشيعية. وهذا ما حدث في لبنان وسورية والعراق واليمن.
ومن الجدير ذكره أنه لقياس درجة نجاح أو فشل القوة الناعمة لبلد ما ثمة مؤشرات رئيسية، تأتي في مقدمتها استطلاعات الرأي، وترجع أول محاولة لقياس القوة الناعمة عبر مؤشر مركب كانت من قبل «معهد الحكم» في بريطانيا، واستندت إلى قائمة واسعة من الحسابات الإحصائية المرتبطة بمصادر القوة الناعمة لـ26 دولة. وقد تم تنظيم الإحصاءات وفق خمسة مؤشرات فرعية تستند إلى: الثقافة، والدبلوماسية، والتعليم، والأعمال/الابتكار.
وقد فشلت إيران في أن تضع نفسها في أي تصنيف للقوة الناعمة على الإطلاق. ولعل السبب في ذلك يعود إلى محدودية فعالية وتأثير القوة الناعمة الإيرانية في الإطار الجيوبوليتيكي سببتها عدة معطيات، أبرزها: الفشل في تقديم نموذج اقتصادي يكون مصدرًا للقوة الناعمة، فلا هي قدمت نموذجًا اقتصاديًا كما فعلت الصين، ولا هي قدمت قصة نجاح اقتصادي. بل اتبعت سياسة طائفية أنتجت نظرة سلبية وعدائية لإيران في الدول العربية تتصاعد بشكل ملحوظ.
إجمالاً، القوة الخشنة الإيرانية ودبلوماسية الصواريخ وليس القوة الناعمة المفترضة، هي الأداة الرئيسية لفرض الهيمنة، وينبغي مواجهتها من قبل القوى المحلية والإقليمية المتضررة منها مرحلياً واستراتيجياً.
وربما يشكل التشكيك في جدية إدارة ترمب واستراتيجيتها وتكتيكاتها ومناوراتها تجاه الملف الإيراني، والتسليم بوجود براغماتية روسية وتركية يُعتقد أنها أنتجت صفقات سياسية مع إيران دعوة للتكاسل وتثبيط الهمم ومدخلاً لتنازلات كبرى.