رعيت غنم أهلي حتى غروب شمس ذلك اليوم، زفوني لزوجي بعد المغرب. صباحا أخذت غنم أهل زوجي لشعاب جديدة، كل ما تغير هو الغنم، لا زلت يا ولدي أتذكر ذلك النهار الجبلي المثلج وكأنه اليوم.

بعيد الظهر بقليل، لحقني أبي إلى المراعي الصخرية، كي يذبح شاة الزفاف ووليمة العشاء التي أقيمت لي وحيدة في كل هذه الحياة، تفقد الأغنام بعيونه الجارحة المخيفة، حاولت أن أخفي عنه تلك الشاة العوراء التي تمضي مشلولة بعد أن كسرت ساقها اليسرى بحجر صغير رميته عليها، وكم رميت من الأحجار من قبل على هذه الغنم، ولكن شاء القدر في ذلك اليوم. أنا وتلك الشاة قصة حياة. نظر أبي إلى ساق الشاة، معطوبة ترفعها مكسورة تحت صدرها المترهل، استلّ عصاه فلم يترك لحمة واحدة من جسدي إلا ونالت منها... وكم بكيت عصر يوم الزفاف.

أنت لا تعرف أبي، كنت طفلة صغيرة أنام في حضن أمي التي بيعت إليه، فلم أعرف عن حياة أمي سوى كفوفي الصغيرة التي تمسح دموع عذابها من أبي كل ليلة، وحين تتعب كفوفي كنت أمد لساني على وجهها شاربة هذه السيول. وذات صبح أسود مخيف غفت أمي على غير العادة حتى عاد أبي من مسجد الفجر. وكالعادة يستل عصاه. وجدت أمي فسحة صغيرة من باب الدار لتهرب في الظلام. طاردها والدي وكنت وراءه. هربت إلى كل مكان. قاومت. حاولت. وحين حاصرها في المكان الأخير كانت على فوهة البئر. رمت إلي بنظراتها الأخيرة ثم رمت بنفسها إلى قاع البئر التي أحبها لأنها نهاية أمي... وأكرهها لنفس السبب.

لا زلت يا ولدي أتذكر: هنا يستل أبي خنجره من وسطه. يضعه على خلفي. يقسم أن يفصله عن جسدي لو أنني تفوهت بكلمة عن القصة وعن الحقيقة والسبب. وليته فصله تلك اللحظة عن عذابات ثمانين سنة فيما بعد.

ودعنا... يا ولدي من كل تلك الآلام. تعال معي إلى ما بعد ظهر يوم الزفاف. كنت أقاوم لهائب عصا أبي على جسدي بينما كان يختار من بين الغنم وليمة العشاء. كان بودي لو أنه اختار «حائلا» سمينة لعائلتي الجديدة ذلك اليوم. كنت في غاية الإعياء وأنا أشاهده يسحب ذات الشاة الهزيلة المكسورة الساق، وحين سلخها ثم فتح بطنها وجدها حاملا «مندولة» فلم يقل لي سوى: أردنا خسارة واحدة فخسرنا اثنتين. عروس لا تساوي قيمة شاة. كانت ليلة زواجي ركضا على جسد تسيل منه دماء العصا التي لم تترك به مكانا لدماء قطرة ليلة الزواج.

أتذكر يا ولدي أنني دخلت بيت أهل زوجي شبه نائمة من تراتيل ذلك اليوم المخيف. في الصباح أخذت غنم أهل زوجي لشعاب جديدة. كل ما تغير ليس سوى الغنم، هي لي رفقة حياة.