في جيزان حين يعود غائب إلى أهله تبادر نسوة القرية إلى صاحبة البيت بتهنئتهن المعروفة "نامن عينك" وهي دعاء بلذة النوم وتهنئة بانتهاء ليالي الوحشة والانتظار، وترد هي قائلة "نامن عينك بمن تحب"!.

بعد آبائنا أخذنا دورنا في الشتات نحو فرص العمل والدراسة، أنا كنت ضمن آلاف ممن وجدوا فرصة قريبة في أبها فحطوا على فروع جامعتي الإمام والملك سعود.

للطريق، شهريا إن لم يكن أسبوعيا، قربانه منا، أغلب بيوت جيزان دخلها الحزن من هذا الطريق المشهور بعقبة "ضلع". حتى اليوم أشعر بالخوف حين أتذكر كيف كنا نمشي بين الجبل وبين الهاوية حيث لا مكان إلا لسيارة واحدة، والضباب يحجب الرؤية تماما أو يكاد. كيف كانوا يسمحون لنا بالسير في فك الموت؟!.

نصل مدخل أبها على طرف أنوارها، مخلفين وراءنا على الطريق دماء الرفاق وأحلام أهلهم، يجبهنا العمود الذي كان يحول بيننا وبين أبها فنقف تحت البرد والضباب كالعصافير المتعبة، يفتشنا رجال الأمن، بعضنا يظلل زجاج سيارته، عليه أن ينزعه حالا ويمزقه أمامهم، بعضنا يضيف مصباحا في السيارة فلينزعه ويدوسه بعجلات سيارته فوراً.

كانت أبها الحبيبة تمارس، من حيث لا تقصد، استعلاءً علينا وتفتشنا عند عمودها، لم نكن نأبه لذلك لكن شعورا بالجرح المرير كان يتعمق في نفوسنا من حيث لا ندري، عتابنا المكتوم كان على الطريق الذي ينهش أحلام أهلنا، وعلى الجامعات التي لم تمتد فروعها لجيزان لتهنأ عيونها بالنوم.

اليوم، من يزور جيزان بالطائرة فإنها، قبيل هبوطها، لا تعبر به فوق أحد أجمل الشواطئ في بلادنا فقط، وإنما أيضا فوق أجمل القصص، حيث "درة الجامعات"، بنت الخمس سنوات و20 كلية وأربع براءات اختراع و300 مبتعث ومبتعثة، و55000 طالب وطالبة، يقودها فريق يملك رؤية متكاملة وواضحة نحو مستقبل الوطن.

أحيانا أزور "جامعة جازان" فأرى الغد في عيون طلابها، وأرى زملائي يشعلونها بطموحهم. أتذكر شتات بعضهم وانتفاضهم عند عمود أبها تحت بردها وضبابها. أتذكر دماء الرفاق على الطريق، القلق، الخوف، الجرح، فأهتف لجيزان "نامنْ عينك".