في مساء الأربعاء الماضي، بثت قناة الجزيرة القطرية برنامجا حواريا خاصا، مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، حول اتجاه الأحداث بالمنطقة والعالم، في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. وقد أدار الحوار المذيع المعروف السيد محمد كريشان، واستغرق ما يقرب من الساعة، وتطرق لمواضيع كثيرة عربية وإقليمية ودولية.

وللأسف غلبت على تحليلات الأستاذ هيكل النظرة السوداوية والرؤية التشاؤمية، حيال الأوضاع العالمية، ومستقبل العرب في السنوات القادمة. وقد وجه انتقادات لاذعة للقادة العرب، تجاه مجمل سياساتهم، وبشكل خاص موقفهم السلبي من العلاقة مع دول الجوار، وتحديدا تركيا وإيران. وفيما يتعلق بالعربدة الإسرائيلية بالمنطقة، أشار إلى أن الصهاينة، قرروا منذ حرب أكتوبر عام 1973م، ألا يسمحوا مرة أخرى للعرب بتحقيق أي انتصار. إن ما تشهده المنطقة العربية من انهيارات وتفتيت وتشظٍ في معظم أقطارها، من وجهة نظره، يعود إلى الوعد الذي قطعه الصهاينة على أنفسهم بعدم تمكين العرب، من تحقيق إنجاز مماثل لما تحقق في معركة العبور.

الواقع أنني لم أكن لأناقش ما جاء في اللقاء المذكور، من آراء رغم اختلافي مع المقدمات والتحليلات والنتائج التي وردت، عملا بالحق في الاختلاف، واحترام الرأي الآخر, لو لم أجد أن بعضها يفتقر للدقة التاريخية والموضوعية، وأنها تبتعد بوضوح عن الثوابت القومية، التي عرف عن الكاتب التزامه بها، طيلة خدمته بالصحافة.

لقد كان الأستاذ هيكل قطبا فكريا في النظام الناصري، وكانت مقالاته بجريدة الأهرام التي رأس تحريرها، مرآة عاكسة لموقف النظام، الذي طرح بقوة مسألة عروبة الخليج، واتخذ مواقف جذرية، تجاه العلاقة مع دول الجوار، وتحديدا تركيا وإيران على أساس موقعهما من الأحلاف العسكرية التي تبناها الغرب في حقبتي الخمسينات والستينات، ومواقفهما من قضايانا المصيرية، وفي المقدمة منها، قضية فلسطين وعروبة الخليج.

في لقائه المشار إليه بقناة الجزيرة، قال الأستاذ هيكل، كلاما خطيرا عن تركيا وإيران، والعراق وعروبة الخليج. ذكر أن تركيا وإيران ترتبطان بالأمة العربية، بحكم الجغرافيا والتاريخ، وعلى هذا الأساس، فإن المنطق يقتضي ألا تتسم علاقة العرب معهما بالسلبية. وقال إن موضوع فارسية الخليج هو أمر ينبغي ألا يكون موضع جدال، لقد تعلم حين كان طالباً أن الخليج يدعى في كتب الجغرافيا بالخليج الفارسي، وأن شاه إيران والإمام الخميني، أثناء لقائه بهما توجها له بسؤال واحد، حول هذا الموضوع، في أوقات مختلفة: الشاه حين كان يحكم إيران، والخميني إثر انتصار الثورة. وأن جوابه لهما أنه تعلم بالمدرسة تسمية الخليج، بالخليج الفارسي. وذكر أن من مصلحة العرب أن يقيموا علاقة جيدة مع إيران، وأن الأخيرة لا تقوم بأي تهديد للأمن العربي، بينما الصهاينة يهددون كل البلدان العربية. وحين سئل عن الدور الإيراني في العراق، اكتفى بالقول "إن العراق هو حاجة ثانية".

النقاط التي ذكرت في اللقاء كثيرة، لكنني في هذا الحديث سأركز على اثنتين منها فقط، وأدع بقية النقاط لأحاديث قادمة: الأولى تتعلق بالدور الصهيوني في الوطن العربي، والأخرى، تتصل بالعلاقة مع الجوار الإقليمي، والموقف العربي من إيران، وموضوع عروبة الخليج.

في موضوع الصراع مع الصهاينة، يعلم الأستاذ هيكل قبل غيره، أن صراعنا مع الصهاينة هو صراع إرادات. لقد خاض العرب حروبا مع الصهاينة، خسروا بعضها وكسبوا بعضها الآخر، والمعارك بيننا وبين المشروع الصهيوني، كر وفر. كسبنا المعركة سياسيا عام 1956، وعبرنا القناة في 6 أكتوبر عام 1973م، وكان سبب النصر ليس غفلة الصهاينة، ولكنه التخطيط الصحيح لإدارة المعركة، والزج بكل الطاقات من أجل تحقيق الهدف.

والقول بأن قادة الصهاينة، قرروا عام 1973م، ألا يمنحونا فرصة لتحقيق أهدافنا، هو قول صحيح في كل المعارك التي خاضها العرب دفاعا عن كرامتهم ووجودهم، ومن ضمنها تلك التي تمكنوا من كسب نتائجها. للصهاينة أن يفكروا ويخططوا، كما يشاؤون، لكن معادلتي النصر والهزيمة هما رهن لأداء مختلف أطراف الصراع. وليس هناك ما يشي بأن القرار الصهيوني هو القدر المقدر على العرب جميعا، إذا ما توفر لديهم التخطيط والأداء الصحيح في إدارة الصراع مع العدو الغاصب. وقول الصهاينة بأنهم لن يسمحوا أبدا بمعاودة تجربة أكتوبر، هو قول يدخل في دائرة الوهم، حين يُهيئ العرب من جديد، كما هيؤوا في حرب أكتوبر كل مستلزمات المواجهة. والخشية، أن تتسبب هذه الأطروحات في تعميم حالة اليأس في نفوس الجمهور، وأن تتسلل المشاريع الصهيونية إلى عقولنا وقلوبنا، وتتحول إلى كوابيس تؤرقنا، كما أرقت مضجع كاتبنا الكبير، وفقا لتوصيفه.

أما حول العلاقة بالجوار الإقليميِ، فينبغي التذكير، بأن هذه العلاقة مع تركيا وإيران، تمر الآن بأفضل أيامها مع عدد كبير من البلدان العربية. وإذا أخذنا تركيا تحديدا، فليست لها مشاكل سياسية مع أي من البلدان العربية. وهناك استجابات عربية شعبية ورسمية تجاه مواقفها الحديثة من الصراع العربي – الصهيوني، وعرفان كبير لمناصرتها غزة وسعيها لفك الحصار عنها. وهناك قضايا مشتركة تتعلق بالأمن التركي والعربي، خاصة تجاه المسألة الكردية، في شمال العراق وجنوب تركيا. كما أن هناك مصالح مشتركة، بيننا، تحتم تطور العلاقة بين العرب والأتراك. ولا يوجد أي مبرر للخشية من تدهور علاقة العرب بهم.

وللتذكير فقط، فإن أي مقاربة بين العلاقات العربية التركية الآن، والعلاقات إبان حقبة النهوض القومي، التي كان للأستاذ هيكل دور كبير فيها، فإن المؤشر البياني، يشير إلى أن علاقة العرب بالأتراك كانت سلبية، في تلك الحقبة، وكانت لنا مطالب مشروعة في لواء الاسكندرونة، تخلينا عنها نتيجة لسيادة منطق القبول بالأمر الواقع، والحرص على حسن الجوار وتبادل المصالح بين العربِ، وبين جوارهم الإقليمي. تحقق ذلك، رغم أن الوضع الجيوسياسي والتحالفات العسكرية، التي حكمت العلاقة بين تركيا والغرب لا تزال قائمة الآن كما هي في الخمسينات والستينات.

وبالنسبة للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فرغم تدخلاتها المريبة في العراق، وتهديداتها المستمرة لدول الخليج العربي، واحتلالها لجزر عربية تابعة لدولة الإمارات العربية المتحدة، فإن أيا من البلدان العربية، لم يقم بقطع العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية معها نتيجة لذلك، بما في ذلك دول الخليج العربي، المتضررة بشكل مباشر من سياسات حكومة إيران.

ومع ذلك فإن موضوع العلاقة معها ومع تركيا، يقتضي وقفة أخرى، في الحديث القادم بإذن الله.