(1)

ثمة منهجان يقودان الإنسان (المفكر) إلى النتائج التي يستفيد منها في التعامل مع قضاياه المتعددة، وهما المنهج الاستقرائي الذي هو استدلال صاعد للانتقال من الحالات الجزئية التي تتم ملاحظتها وتسجيلها، إلى القواعد والأحكام العامة، والمنهج الاستنباطي الذي هو الاستدلال عندما يتم بطريقة عكسية، من العام إلى الخاص، أي من البدء بمسلمة الأحكام، ثم إثباتها -استنباطا- من خلال الحالات الجزئية.

وتتفاوت عملية استخدام كلا المنهجين بحسب الإمكانات المعرفية التي يمتلكها عقل الإنسان.. الباحث.. المفكر، إذ إن البداية بمسلمة الأحكام العامة لا تتناسب مع الفكر الناشئ، في حين أنها تكون مستساغة ممن يختزنون قدرات معلوماتية معرفية كبيرة، أو ذكاء فطريا حادا!! تمكنهم من إطلاق مفاهيم علمية (معقولة وممكنة ومستساغة) لأحكام ونظريات جديدة!!

(2)

خطرت على بالي قصة هذين المنهجين، وأنا أراقب الكم الهائل من الخطابات المتنوعة التي تعج بها صفحاتنا الورقية والإلكترونية ومنتدياتنا الثقافية الخاصة والعامة، ووسائل التواصل الاجتماعي (الهائلة)، للدرجة أن نصف مليون تغريدة يطلقها أفراد مجتمعنا كل يوم واحد (فقط)!! يحدث كل ذلك الهيجان العنيف من (البث) الجمعي في اللحظة التي يعج بها الفضاء -كذلك- بهيجان آخر على مستوى إنتاج المعلومة وتنسيقها والاستفادة منها في عصر الثورة الرقمية المعلوماتية!! ولكن ذلك (الهيجانين) لا يقتربان من بعضهما ولا يتناسبان طرديا مع بعضهما غالبا، إذ إن ثمة حالات قليلة (جدا جدا) في كل ما يصدر لدينا من خطابات، يتم فيها استثمار (ثورة المعلومات) بطريقة فاعلة منتجة صحيحة!! تدهش وأنت تتابع تلك الفضاءات المفعمة، فلا تجد أثرا لاستفادة من معلومة، أو معرفة، أو تجليات الجمال في أدب وفنون!، لم يحدث أي تغيير إيجابي في الذهنية الجمعية المحلية، منذ عصر المعلوماتية وقبلها، بل إن تلك الذهنية كانت أكثر إيجابية ومنهجية ومنطقية، قبل ما يقارب أربعين عاما من زمننا (المحلي)! مع أن الأمر الطبيعي هو زيادة وعي وحضارة العقل الإنساني، كلما تقدم به الزمن!

(3)

كأني بهذا المشهد الموتور أحسب أن الفكر المحلي قد توقف عند المرحلة الأولى من مراحل (الاستقراء)، وهي مرحلة جمع (البيانات) التي لم ترتق لتصبح (معلومات) بعد، لأن من سمات المعلومة سهولة إدراجها في أي فعل تفاعلي إنساني!! فـ(كل) ما تنتجه الخطابات المتنوعة (الدينية والعلمية والأدبية والفنية) يظل في السوق المحلي عملة قديمة لا يمكن (صرفها) واستثمارها والاستفادة منها: مجرد بيانات مجردة.. من هنا وهناك، لم تجد الذهنية الصحيحة القادرة على تحويلها (معلومات)، تجعل نظرة الإنسان للكون والحياة بمظاهرهما وظواهرهما المتنوعة أكثر حضارة وتوازنا وعلمية وإنسانية..! (بالتأكيد، فثمة أسباب.. سأقاربها في نثار قادم، بإذن الله).