كتاب (العبودية المختارة) لـ (أتيين دي لابواسييه)، لا أنساه قط أهدانيه الأخ غطفان القادري في نسخة قديمة مغبرة، بخط لا يكاد يقرأ، على أنه مهم، مترجم بيد رجل كنيته صفوان فيما أذكر.

لأول وهلة ظننت أنه كتاب (العبودية) لابن تيمية، قلت في نفسي رحلة كندا طويلة فلأقرأه في الطائرة!

وحين بدأت في تصفحه ذهلت ثم ذهلت!

شاب عمره 28 سنة عاش عام 1562 م قبل أربع قرون، يكتب مثل هذا التحليل السياسي لآلة الطغيان، وكيف يبرك رجل على رقبة شعب كامل فيسوقه مثل الجمل والحصان.

قلت: لا ... لا .. يجب أن يُقرأ جيدا! وهكذا قرأته مرات ومرات حتى فهمت ما يريد، أو هكذا أزعم، وواجهت آلة الطغيان تماما على طاولة التشريح، وعرفت كيف تعمل، مثل عمل أي جرثوم لعين أو فيروس هالك مهلك أو حتى مثل أي جهاز عضوي في البدن، هضم المعدة، وإفراز الكلية للبول، والدرق للتيروكسين، وتنفس الرئة، ونبض الشريان سنة الله في خلقه..

وقل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومنها الطغيان الذي عالجته أول سورة نزلت برفض الطاعة وليس قتل الطاغية.

بعدها عكفت على البحث من زاوية أخرى أثارتها مجلة در شبيجل الألمانية، بعنوان (التجربة Das Experiment) عن آلية السيطرة والانصياع، بقلم عشرة من الباحثين، في تجربة مشهورة من تجارب علم النفس، بإخضاع فريقين لتجربة قاسية، يأخذ بعضهم دور السجان والآخر المسكين المعتقل، وهي تجربة عشتها أنا أربع مرات، مما دفعهم لإيقافها بعد أيام، بعد أن خرج الوحش الإنساني من صدور الجلادين. ورأيت أنا هذه التجربة في فيلم فرنساوي بعنوان "اغتيال رئيس"، غالبا عن قصة اغتيال الرئيس كينيدي. وفي نهاية بحث مجلة در شبيجل الألمانية عرفوني على كتاب (القوة Power) لروبرت غرين الذي ترجم إلى عنوان (كيف تمسك بزمام القوة؟).

ثم أخرج بعده المؤلف كتاب (الحرب WAR) وهو في نفس الاتجاه الملعون عن لعبة السلطة والقوة والإكراه والحرب والضرب؛ فليحذر من يقرأه أن يقرأه بعين النقد والانتقاد والتحليل والسبر والتمحيص، وهو ما فعلناه في الكتاب الذي أصدره دار الناقد بعنوان (فقد المناعة ضد الاستبداد)، شاركت فيه مع جودت سعيد وهشام علي حافظ رحمه الله بـ 17 بحثا، وكما يعلمنا العظيم (ابن خلدون) أن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قياس الغائب منها بالشاهد، والذاهب بالحاضر، فلا يأمن فيها المرء من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق، وهو ما حدث لكثير من أئمة النقل والتفسير. ويذهب هذا العملاق فيستحضر لنا ستة نماذج من كتاب أئمة عظام في التاريخ؛ فيذهب إلى تخطئتهم وغلطهم وذهولهم عن المقاصد، ويقول لا يمكن لموسى أن يقود جيشا تعداده 600 ألف مقاتل، ولا يعرف آخر الجيش ما يحصل في أوله، معتمدا في هذا على قواعد لوجستية بحتة، وهي أمور تغيرت مع الحرب العالمية الثانية حين دفع هتلر جيش بارباروسا بخمسة ملايين عسكري لوجود نظام الاتصالات والطيران، مما يحول المبالغات إلى صورة قوانين موضوعية، ولذا فنصيحتي للقارئ أن يستفيد ثلاثا من هذه الكلمات في الرجوع إلى (مقدمة ابن خلدون) وكتابه في التاريخ فليمنحه من الوقت ثلاثة أشهر على الأقل لفهمه وهضمه.

وسمعت عن محمد عبده في مصر أنه في حركة تنويره للعقل المسلم المعاصر كان يعمد إلى تدريس الطلبة فصولا من المقدمة، وأنا أحاول دوما أن أشجع على الاطلاع عليها بدون جدوى، لأنها مكتوبة بلغة سجعية قديمة فلا تجذب القارئ، لذا كان لابد فيها من الصبر في القراءة، والخلاصة فربما كان من المفيد أن نشرح تلك الكتب المئوية في تأسيس المعرفة البنيوية طبقا عن طبق! فنورد حوالي مائتين إلى ثلاثمائة كتاب من ذخائر الفكر الإنساني ونشرح كل كتاب في أسطر قليلة فائدة للقارئ وموعظة للغافل وتنبيها للساهي والنعسان عسى أن يفيق! ورفع القلم عن أربع عن الوسنان حتى يصحو، والمجنون حتى يعقل، والنائم حتى يستيقظ، والطفل حتى يعقل، وربما الأمم الغافلة الجاهلة حتى تتعلم!

وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.