كان الغناء طقسا يوميا يبدأ به الجنوبي خطواته الأولى بعد البسملة، في ذلك الزمن البعيد عندما كان رفيقا للسنابل وعشيقا للشمس، قرويا بسيطا يمضي نهاره في غزل الحكايا بين ضحكات السواقي وهمسات الصبايا، وهن يراقصن ظل العابرين بخفة نحو الحقول المزدانة بخيرات الله، رجال ونساء بعضهم يسند الآخر استعدادا لثورة الحصاد، قلوبهم ناصعة البياض لا يشوبها ظن السوء في جار أو رفيق، هكذا حدثونا الأجداد، وقد توقف ببعضهم الزمن عند تلك الأيام المغتالة وما برح يذكرها حتى يتعالى نحيبه، مات كل شيء، وبقي أثر السيل العارم الذي داهم القرى في غفلة، فألبس النساء السواد والرجال التوجس من ظل أحدهم وهو ينكسر قريبا من باب جاره.
الكثير من الكتاب والروائيين الجنوبيين تناولوا هذا الحدث أو التيار الذي قلب حياة الناس وقتل بهجتهم وفرق بين الإخوة والجيران، ولكن تلك المكاشفة لم تفد إلا في زيادة التعنت وكيل التهم لأصحاب ذلك الطرح بأنهم تغريبيون ومعادون لتعاليم الدين الصحيح، وانطلت تلك الفكرة على البسطاء، وتمدد التيار الذي عرف باسم الصحوة إلى أن غشى كل شيء، وانتفع به ومنه من نبت في قلبه الحقد على الإنسانية وغلبت على نفسه شهوة المادة، وعانى من ويلات نهجه المغالي الذي لم يجعل للتسامح طريقا ولا للتقرب مجالا ذلك المختلف الذي ينشد الحياة المعتدلة السوية، ومن نهج الغلو هذا تأججت نار الفرقة وغلب التطرف على حياتنا لتبرز العداوات والمشاحنات وتنكفئ كل جماعة على نفسها، ومن كانت تمثل الأقلية تبقى الحلقة الأضعف أمام تنمر الأخرى القوية بالعدد والدعم من أفرادها المسيطرين على منافذ رسمية مهمة، ووسط هذا الدعم المعنوي واللوجستي انبرت تنفذ مخططها في دوائر متسعة وخلال عقود تسيدت الموقف لتحلل وتحرم وتكفر.
تاريخ طويل من المعاناة وانتظار الفرج، ويبدو أن الله قد استجاب لتسقط في آخر الممر الطويل الحالك الظلمة دائرة من نور، تحلقنا حولها بعضنا يصرخ والآخر يضحك والكثير بكوا ماضيهم المرير مع أرباب هذا التيار، خاصة من أبدعوا في تصنيفهم ونعتهم بأنهم أشد عداء وخطرا على الأمة، ومن هذا المنطلق تم إقصاؤهم والتضييق عليهم والتشكيك في ولائهم، ولم يكونوا أبناء طائفة معينة أو فكر معين أو حتى قبيلة معينة، هم كثر وعلى امتداد الوطن، اتفقوا فقط على عدم اتباع المنهج الإقصائي الكريه، الذي وعد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان العالم كله أن الدولة ستقضي عليه ولن تسمح له بالسيطرة والبقاء أكثر من ذلك، وهذه التصريحات لسموه والتي بزغت كنقطة ضوء في عتمة ليل طويل لم تبهج السعوديين فحسب، بل الكثير من مواطني الدول الإسلامية التي طالها هذا التيار، ونحن ننتظر جلاءه غير مصدقين أن هناك نهاية قريبة ومن ثم بداية جديدة لنهضة واعية معتدلة متسامحة يقودها الفكر وليس الجهل والتطرف، وهكذا هي المجتمعات التي تسعى إلى بناء وتطور الإنسان، لا إلى مصادرة الفكر المنفتح على الحياة وإعمار العقل بفكرة الموت والعذاب وكراهية ما يدعو للسعادة، والأكيد أننا مبتهجون ومتفائلون أن كل تلك البرمجة ستتلاشى ونعود إلى الفطرة السوية التي تحب الحياة وتغني وترقص لها، كما كان الأسلاف يباركون أعمالهم بالنشيد.