تنطلق رؤيتنا الوطنية من مكامن القوة فيها والتي تتمحور حول ثلاثة مقومات أساسية يتصدرها عمقنا الإسلامي

وما تتحمله المملكة من دور ريادي داعم ومساند لشؤون الأمة الإسلامية وقضاياها، في حين تشكل قوتنا الاستثمارية ومواردنا المتنوعة المفتاح المحرك لتنويع قاعدتنا الاقتصادية بما يستهدف تحقيق تنمية مستدامة ونمو اقتصادي ينعكس على رخاء وطني ورفاه ينعم به المواطنون، بينما يعتبر موقعنا الاستراتيجي والمتوسط للعالم الإسلامي والعربي والشرق الأوسط حلقة وصل مهمة، ومرتكزا استراتيجيا لمحور العلاقات بين الشرق والغرب.

وقد استندت الرؤية في محاورها على ثلاثة محاور أساسية كمرتكزات لانطلاقتها التي يمثل المجتمع الحيوي قاعدتها، والاقتصاد المزدهر عمودها، والوطن الطموح إطارها ومظلتها، ومن هنا فإن الفاعلية والمسؤولية

أساسان جوهريان لتطبيق الرؤية وبلورتها ميدانيا، من خلال منجزات وطنية شاملة لن تتحقق إلا بمشاركة جميع مؤسسات الدولة وقطاعاتها على كافة المستويات والمسارات بما يستهدف الرؤية واستراتيجيتها ومضمونها،

والذي يكون من خلال برامج ومبادرات وإجراءات تتواءم مع تطلعات الرؤية وطموحاتها الوطنية.

ولما كانت الجامعات من أهم المنصات الوطنية العلمية والمؤسسات التربوية التي يمكنها المساهمة في ترجمة مضمون الرؤية إلى برامج عمل ومنتجات وطنية تُثمر عن منجزات ملموسة، فإنه حريُ بها أن تتقصى الجودة والانتقائية فيما تتحمله من مسؤوليات وما يناط بها من مهام، سواء من خلال فاعلية مخرجاتها البشرية بتميزهم وتمكينهم للمساهمة في مسيرة البناء والنماء، أو ما تنتجه من أبحاث علمية مختلفة تستهدف معالجة التحديات التي تواجهنا بما تقدمه من حلول تلامس طبيعة إشكالاتنا وواقعنا المجتمعي والتنموي، وبما يتواءم مع ظروفنا وبيئتنا وحاجاتنا كجزء من مسؤوليتها الاجتماعية، هذا إلى جانب ما تقدمه من ابتكارات علمية وإبداعات منتجة تتولد من تراكم المعرفة واستثمارها للاستفادة منها في تحويل العلوم والمعارف إلى منجزات ملموسة وموارد حية ينعكس خيرها ومردودها إيجابا على الوطن والمواطنين، وبما يؤهلنا لأن نتصدر مكانا لائقا بنا وبمقدراتنا الوطنية على الساحة الإقليمية والدولية.

وحيث إن الجامعات تُعد الجهة الرسمية والمؤسسية النابضة بالأبحاث المختلفة والمعنية بتوجيه موضوعات البحث العلمي على اختلاف مقاصده ومستوياته، بل إنها مسؤولة كذلك عن الاهتمام بمتابعة تطبيق مخرجاته وتنفيذها ميدانيا في المجالات المختلفة من قطاعات الدولة ومؤسساتها ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص، وذلك من خلال تنشيط سبل التواصل مع الجهات المعنية بالأبحاث بما يحقق الاستفادة منها، والذي به نستطيع أن نقول إن جامعاتنا قدمت شيئا للبحث العلمي، بل نهضت به من كبوته الطويلة، وبذلك تكون قد أسهمت في معالجة إشكالاتنا الوطنية وما نواجهه من تحديات وما نـحتاجه من دراسات وأبحاث تخدم بلورة رؤيتنا الوطنية إلى واقع نعيشه، وإلى برامج ومبادرات وابتكارات وطنية تترجم منجزاتها البحثية وإبداعاتها المعرفية في منتجات وطنية مثمرة.

وإن توجيه موضوعات البحث العلمي على اختلاف درجاتها ومستوياتها، والمتضمنة تحصيل الدرجات العلمية أو الترقيات لأعضاء هيئة التدريس نحو تحقيق أهداف الرؤية وترجمة تطلعاتها إلى برامج عمل ومنجزات تخدم تحقيق مضمونها واستراتيجيتها الموضوعة، لا يحسب للجامعات فقط، وإنما هو جزء أساسي من مسؤوليتها المؤسسية والوطنية بما تتحمله من مسؤولية اجتماعية تحتضن المجتمع الذي تنتمي إليه بما يكتنفه من تحديات وإشكالات تقف حجر عثرة أمام تحقيق تطلعاته، وتأمين استقراره والحرص على ديمومة رخائه وازدهاره، هذا إلى جانب أن البحث العلمي يكون بذلك قد حقق مستهدفاته الأساسية التي تبرر تسخير كافة الإمكانات لخدمته بما يدفع إلى مزيد من الاهتمام به، وتوفير مختلف أوجه الدعم الذي يستحقه أسوة بدول العالم المتقدم.

وفي ظل ما نشهده من مخرجات بحثية مختلفة المقاصد لجامعاتنا الوطنية، نجد أن الكثير من الأبحاث بعيدة تماما عن واقعنا التنموي وليس عن رؤيتنا الوطنية فقط أو تطلعاتنا الطموحة، وإنما هي بعيدة عن المجتمع الذي تنتمي إليه، سواء في موضوعاتها التي تستهدفها ومدى أهميتها في مواجهة تحدياتنا الوطنية، أو في حجم ما تقدمه من ابتكارات وإبداعات معرفية يمكن ترجمتها إلى برامج اقتصادية وتنموية تشكل إضافة علمية إلى رصيدنا المعرفي الوطني، ومن جهة أخرى فإن البقية الباقية من الأبحاث المهمة والمتميزة نجد أنها مغيبة عن الجهات المعنية بها للاستفادة منها ميدانيا لفقدان قنوات التواصل بين مؤسسات الدولة والمجتمع من جهة، والجامعات ومنتجاتها العلمية من جهة أخرى، وذلك يتطلب فرض استراتيجية محددة وآلية مدروسة حول معالجة مشكلة البحث العلمي في الجامعات وما مدى جدواها، وما إمكانية احتوائها تحت مظلة علمية مستقلة كمجلس علمي يقوم بتوجيه الجامعات نحو موضوعات بحثية هامة تتطلبها ظروف التنمية المعاصرة وحاجاتنا الوطنية، وذلك يفرض الإلزام باعتمادها من المجلس المقترح بعيدا عن البيروقراطية والتعقيدات الإدارية، وبما يخدم توجهاتنا الوطنية ورؤيتنا الاستراتيجية، بحيث يضم المجلس نخبة من المواطنين المهتمين بالبحث العلمي والتنمية والقطاع الخاص الذي يمثل الميدان العملي المستفيد والمنفذ لما تقدمه الأبحاث من إبداعات وابتكارات يمكنه بلورتها إلى منتجات مثمرة تخدم الوطن والمواطنين، سواء بما تفرزه من تقنيات وابتكارات، أو ما توفره من فرص عمل منتجة تضيف إلى اقتصادنا الوطني، من خلال ما تتصدى له من تحديات كالحد من البطالة التي تواجهنا، أو الضعف في مستوى الإنتاجية فيما يشارك فيه المواطن من وظائف مختلفة وفرص عمل متاحة.

ومما يجدر التنويه إليه أنه على الرغم من أهمية الموضوع وقوة تأثيره في تغيير مسار التنمية نحو الأفضل، وعلى الرغم كذلك من اهتمام الجامعات واستيعابها لأهمية توجيه موضوعات البحث العلمي بما يتواءم مع متطلبات رؤيتنا الوطنية، إلى جانب إدراكها أهمية تفعيل ما تقدمه الأبحاث من نتائج وتوصيات هامة ذات صلة بمتطلباتنا الوطنية، والذي يتضح عبر المنتديات والمؤتمرات العلمية وما يدور حولها من مناقشات، إلا أن النتيجة الفعلية التي تتكرر دوما هي ذاتها التي تتحدد في بُعد كثير من الأبحاث العلمية (وليس جميعها)، عن واقعنا التنموي وتحدياتنا الاقتصادية، بالإضافة إلى تجميد البحوث جميعها وتحصينها خلف أسوار الجامعات وطي المكتبات الجامعية والأقسام دون تطوير قنوات التواصل الفاعلة مع الجهات المعنية للاستفادة من نتائج الأبحاث وتوصياتها العلمية، ومما تجدر الإشارة إليه أن المزيد من الاستقلالية المستهدفة للجامعات سيزيد من الطين بلة فيما يتصل بالبحث العلمي وجدواه الوطنية، وذلك على الرغم من التصنيف الوارد في مقترح النظام الجديد للجامعات في مسؤولياتها المؤسسية.

لن يتقدم البحث العلمي لدينا في مخرجاته وجدواه الوطنية، إلا باحتوائه تحت مظلة وطنية علمية وتنموية عليا، تشرف على موضوعاته بما يضمن توافق توجهاته ورؤيتنا الوطنية، وبما يصحح مساره العلمي ويكفل مردوه الوطني، وإمكانية ترجمته والاستفادة منه ميدانيا، وذلك يشمل كافة التخصصات المتاحة، النظرية والعلمية، وما يستحدث فيها من تطوير يخدم ظروفنا التنموية.