لا أظن موضوع المؤتمر الذي نظمته دار الإفتاء المصرية الأسبوع الماضي «دور الفتوى في استقرار المجتمعات» موضوعا فقهيا خالصا يهم الفقهاء وحدهم، أو تكفيه دراساتهم وآراؤهم، أو يقف عليهم استشعار ما يطرحه من إشكال وما يتطلبه من حلول.

بل لعل الإنصاف يقتضي أن نرى موضوع الإشكال في المؤتمر هو الفقه والفقهاء، بوصفهم سلطة التملك للفتوى وإنتاجها، ومن ثم فإن الحاجة إلى معرفة بالمعرفة الفقهية وسلطتها، تقتضي مسافة للنظر عن المعرفة موضوع الدراسة، بما يتيح البصر بموضوعها في تجرد من التحيز، وانكشاف للحجاب الذي يسبّبه القرب والالتصاق.

هذه المسافة هي ما تتطلب من الفقهاء موقفا نقديا منهجيا للفقه وللممارسة الفقهية، تجاوز بهم المتكآت التي تتيح استخدام الفتوى في العبث بالاستقرار، وهي نفسها المسافة التي تستدعي مشاركة من اختصاصات منهجية اجتماعية وإنسانية مختلفة، للكشف عن الآليات والشروط والأوضاع التي تتحكم بالفتاوى، وتخلق سلطتها وشذوذها وضلالاتها وما ينتج عنها من تدمير وتخلّف، ولاقتراح الحلول.

وتتجاوب المسافة المطلوبة للنظر، فيما تقتضيه من اتساع، مع مسافة مطلوبة من جهة الجغرافيا والتاريخ، تُجَاوز انـحصار المشكلة في هذا البلد أو ذاك، أو في هذا الزمن التاريخي أو ذاك.

ذلك أن الاضطراب الذي تحدثه الفتاوى يشمل أقطار المسلمين وأماكنهم كلها بمختلف مذاهبهم، ونراه في فترات التاريخ الإسلامي المختلفة منذ تصارعت المذاهب، واستخدمت الأحزاب والأهواء الدين للتسلط والتنفع وإلى يومنا هذا.

وإذا شئنا أن نقدم توصيفا للمشكلة وأن نبحث عن طرق لحلها، فإن علينا أن نأخذها في اتساعها التاريخي والجغرافي، وفي تكوينها الثقافي الاجتماعي، حين لا تنفصل فتوى مدمّرة الآن عن موقف فقهي -مثلا- في العصر المملوكي أو قبله أو بعده، أو عن وضعية ثقافية واجتماعية أنتجتها في زمن غابر، ولا يقف ضرر فتوى في المشرق عن أن يبلغ أقصى المغرب.

أما ما تحمله الفتوى من خطورة وأثر، فيعود إليها بوصفها موقعا سلطويا في حياة المجتمعات الإسلامية، إذ يكاد يفهمها عامة المتدينين من حيث هي إلزام لهم بما يقوله المفتون بوصفهم «الموقعين عن رب العالمين»، على حد وصفهم عند ابن القيم في عنوان كتابه المعروف، وليست -كما هي حقيقتها المقررة- رأي المفتي واستدلاله وفهمه وتفسيره وقياسه، أي ليست فقْهه بالمعنى الصناعي للفقه، فالفقه «صنعة».

وخطورة الفتوى هنا هي نتيجة ذلك الموقع السلطوي لها، فيما يترتب عليها بسببه، من استقرار المجتمعات أو اضطرابها، ومن تآلفها أو احترابها، ومن نزوعها إلى المستقبل والبناء والتقدم والانفتاح على العالم، أو العكس من ذلك.

إنها -من ذلك المنظور السلطوي الإلزامي- تنطق من موقع الامتلاك للحقيقة التي تتعدد وتنقسم وتختلف، بحسب تعدد المفتين وانقسامهم واختلافهم، فيغدو موقعها هذا جاذبا للأهواء والمنافع الفئوية بأكثر من صفة، ونتيجة لاختلاف التصورات والحسبان للأوهام والمخاوف التي لا تفارق تجارب البشر.

هكذا نرى التطرف والإرهاب في جوهرهما نتيجة فتاوى ضالة ومضلة، تأوّلت -وفق قناعات واهمة وضيقة- نصوص الدين ومقاصده وآراء الفقهاء، لتفجّر بركان الدماء، وتضيّق الخناق على حياة المجتمعات، وتضطهد المختلف، وتعادي العالمين جميعا.

وهكذا نرى الطائفية ثمرة الفتاوى التي تنتصر لمذهبها الديني بإغراء أتباعها بالنيل من أصحاب المذاهب الأخرى من شركائهم في الوطن أو شركائهم في الثقافة أو الإنسانية، وإيذاء مشاعرهم.

وهكذا نرى النتيجة المفزعة للفتاوى والآراء الفقهية، حين تخضع للأعراف والأهواء الاجتماعية، في إنتاج العنصرية المنتنة والطبقية المقيتة، منتقصة كفاءة نسب الأشخاص بسبب ألوانهم أو انتماءاتهم الإثنية أو الاجتماعية، ومحقّرة من عقلية وأخلاقية أصحاب مهن محددة، بمنعها قبول شهادتهم، ليس لشيء إلا لأنهم في قاع المجتمع، كالكنَّاس والكساح والزبال، وغيرهم ممن توصف مهنهم في كتب الفقهاء، كما في «المغني» لابن قدامة بـ«الصناعات الدنيئة» التي «يجتنبها أهل المروءات».

وهكذا نرى التأليب مهنة فقهية رخيصة، باتت الفتاوى وسيلتها، كما هي وسيلة الوثوب على السلطة السياسية والاجتماعية، وكما هي سلاح في التفسيق والتكفير يشلّ المجتمع ويعتقله في فتوى أو أخرى.

ولن تكتمل صورة الفوضى في الفتاوى، من دون أن نتذكر الفتاوى الشاذة والصادمة والغريبة والمتوحشة التي تتناثر في أقطار المسلمين، خصوصا وهي تأتي في معظم الأحيان من أسماء معروفة ومقدّرة ولها أتباع.

فمن يبيح «نكاح الوداع» أي معاشرة الزوجة المتوفاة، لا يقل صدما للشعور عمّن يبيح «نكاح البهائم»، أو غرابة عن فتوى «الزواج من الجن»، أو شذوذا عن عدم جواز «خلوة الأب مع ابنته»، وعن جواز «إرضاع الكبير». وهذه وتلك ليست أقل في الدلالة على التوحش من الفتوى التي ترى أن «الزوج ليس ملزَما بدفع تكاليف دفن زوجته المتوفاة»، أو فتاوى «قتل النساء والأطفال».

وهذه أمثلة يسيرة مما تداوله الناس لعديد المفتين في العقد الأخير من السنوات فحسب، وسيجد المرء أن لهذه الأمثلة ولما يفوقها مرجعيات في مذاهب ومؤلفات فقهية قديمة.

والمؤكد أن كتابا جريئا ككتاب أحمد العرفج «الغثاء الأحوى في لمِّ طرائف وغرائب الفتوى» (2011) جدير بالتنويه هنا، لأن مثل هذا الكتاب يتيح، بجمعه الفتاوى الشاذة والصادمة، التأمل في الموضوعات والخلفيات التي تتخلق تلك الفتاوى تجاهها، ويحفز الوعي إلى استكناه كثرتها وسلطانها وفوضاها وأثرها والتداعيات حولها.

ومن الطبيعي أن تكون الحاجة قائمة إلى فعاليات ومؤتمرات كالمؤتمر الذي عقدته دار الإفتاء المصرية، تشخص الظرف الثقافي الاجتماعي الذي تتخلق فوضى الفتاوى فيه، وقوة سلطانها، ويصف الآثار المترتبة عليها. ولكن المهمة الكأداء التي تحدو هذا الجهد هي الوصول إلى حلول تمنع ما تحدثه الفتاوى من دمار.

وليس للمرء إلا أن يعجب ممن يستعجل الحلول، أو يبادر إلى إيجاز وصفتها. فالحلول برمتها -فيما اطلعت عليه- لا تعدو عند بعض المهتمين سوى «استشعار الخشية من الله تعالى، وتعظيم أمر الفتيا، وتذكّر تدافع السلف لها». وهذا أمر صحيح بالطبع، لكنه ليس حلا، لأن أحدا لن يستطيع الزعم أن أصحاب الفتاوى المسيئة لا يخشون الله، إلا إذا كان مطلعا على النيات والضمائر. فخشية الله -من حيث هي عمل قلبي- أمر يخضع لتقويمهم هم، والدواعش على سبيل المثال وأشباههم، لا يرون فيما فعلوا إلا إرضاء لله وإقامة لشرعه وانتصارا لدينه وطمعا في نعيم الشهداء في الجنة.

ومثل ذلك من يرى الحل في توعية المستفتي بـ«ألا يسأل إلا من كان واثقا من فتواه وخشوعه». أو يشرح صنعة الفتوى وحاجتها إلى الدربة والمعرفة بالواقع، غافلا عما تتيحه هذه الصفة في الفتوى من مداخل شتى لا ضابط لمقياس الدربة والمعرفة في كل منها سوى تصور المفتي وادعائه المعرفة بالواقع ونفيه إياها عن غيره.

ولا يقل إشكالا عن ذلك من يرى «تجريم الاختلاف على فتوى الإمام الجامع للأمة على جادة تآلفها»، وهذا ما ورد في كلمة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى أمام المؤتمر. فعلى الرغم من أن محاسبة أصحاب الفتاوى المقلقة أمر مطلوب، فإن ذلك يبقى دون مهمة المعالجة للذهنية الشعبية التي تسبغ على المفتين -بمزاجها- التعظيم، وتستدر منهم تلك الفتاوى المثيرة للاضطراب، وقد تتوهم في العقوبة لهم بعض دواعي الثقة بهم.