كتبت مرة عن رواية «أبوشلاخ البرمائي» للدكتور غازي القصيبي، «وتمثل تلك الرواية حكاية التاريخ العربي المركب في انتكاساته وإحباطاته الغامضة، إذ يتماهى أبوشلاخ البرمائي -ساردا- مع تعقيدات الواقع العربي. ومن خلال الحوار يستطيع الكاتب استيعاب تلك التعقيدات، فهو يضع مجموعة منظورات مختلفة على لسان الشخصيات المتحاورة، منظورات تتشابك محاولة تفسير غموض الواقع العربي من جهة، وتعكسه في اشتباكاته من جهة ثانية. وعبر الحوار يرمي السارد حصاة على سطح مياه عميقة راكدة فتنفتح دوائر الأسئلة وتتوالد إلى ما لا نهاية. والكاتب هنا يقيم عالما تخييليا موازيا للواقع العربي، يحاول عبره تمثيل مفارقات هذا الواقع، بأساليب مختلفة من السخرية، وكأن أبوشلاخ يريد أن يقول لنا إن المنطق ليس هو ما يحكم الواقع العربي وبالتــالي لا يصلح لتفسيره وفهمه والتعامل معه سوى السخرية».
كتبت عن الرواية قبل أن تحتل وسائل التواصل الاجتماعي المرتبة الأولى في صناعة الوعي، وكنت أحتفي بالحوارية السردية، لأنها تجسد الواقع المدني، وتقدم صورا للفعل فيه، سواء ما يدور في ضمير الفرد من صراعات، أو داخل المجتمع من منظورات تتشابك لدرجة يعجز عن استيعابها وتقديمها الوصف الموضوعي الصرف، لأنها ببساطة ليست موضوعية في طبيعتها!
أما اليوم فقد انعكس الوضع، وأجد نفسي أكتب عن سردية تحدث في الواقع، وتكتبه مباشرة، بوساطة التقانة، سردية أبطالها أفراد المجتمع، وكاتبها –المجتمع- كيان افتراضي وحيوي في الوقت ذاته، فهي لوحات سردية
يكتبها أفراد المجتمع، في صورة شخصيات ذات حضور تقني، لا يمكن وصفها بالبشرية الخالصة، ولا يمكن
نسبتها للتقانة الصماء، كما لا يمكن أن ننزع عما تكتبه صفة التخييل وننسبه للواقع الصرف، فلا يقاس ما يكتب بمعيار الحقيقة بل بمعيار الاحتمال. إننا نتحدث في هذه الحالة عما يسمى سرديا: الصوت، بصرف النظر عمن يقف خلف هذا الصوت.
يحضر أفراد المجتمع في صورة أصوات، تحملها معرفات على مواقع التواصل الاجتماعي، يطلقون شرارة الحوار حول أفكار يعتقدها كل صوت، وتأخذ -القصص- في التشكل مع كل نقرة حرف، وتتخلق عقدة هنا، وحل هناك، وكثيرا ما تبقى القصة مفتوحة، فهي تمثيل لطابع الحياة السردي، غير القابل للتوقع في كثير من حالاته.
ومثلما كان أبوشلاخ أيضا هو صوت الضمير العربي في تحولاته، وحيرته، في رحلة بين اكتشاف الذات وتشكلها، تجيء أصوات الناس في تغريداتهم حول موضوعات الحياة، لتمثلهم مباشرة، تعكس حيرتهم، وصراعاتهم الداخلية، وتلك الرحلة بين المعرفة والتشكل، إذ تجد الصوت ذاته يتحول وجوديا خلال دقائق، فهو بالحوار يغير مواقعه، أثناء اكتشافه ذاته، إنها كتابة للذات وللمجتمع، حيث تغدو التواصلية وسيلة لصناعة الذات، لا لمعرفتها ومعرفة الآخر فحسب.
ومن هذه التحولات علاقاتنا بالآخر، إننا نكتشف موقعنا من العالم، ونصنعه في الوقت ذاته، عبر ما تقدمه التواصلية التقنية من معرفة وبيئة خصبة للحوار. إنها مساحة لصناعة الحاضر، وبناء المستقبل، وإعادة صياغة للتاريخ.
الخطاب الذي يتشكل على مواقع التواصل، يشارك في الفعل الثقافي والسياسي في آن واحد، بوصفه ذراعا من أذرعة الإعلام الجديد، وإذا كان الإعلام التقليدي يحاول تسخير الإعلام الجديد لخدمة أهدافه، فتواصلية الإعلام الجديد تقاوم هذه السلطة، بل تفرض رقابتها عليها، فلم يعد المجتمع متلقيا سلبيا لما يلقى إليه من القنوات الإعلامية، بل صار كل فرد مشاركا في صنع الخبر. وذلك ما يطرح شكلا جديدا للوعي، مدعما بآليات المراجعة والنقد، والمشاركة.
لقد منحتنا التقانة وسيلة لنكون صناعا للحياة، لا دائرين مطحونين في رحاها، ومهما يكن من محاولات لعكس المفهوم، تغلب التواصلية بطابعها السردي، المرتبط بتعدد المنظورات، وبالحراك الزمني للحوار، تغلب أي محاولة لإسكات فعل الوعي فيها، وتظل متاحة لصناعة المستقبل. وعلى الرغم من الحضور غير البسيط للأصوات السطحية في حوارها، تبقى هذه الأصوات جزءا من الحياة الواقعية، فنحن في زمن حيث التاريخ ليس صناعة النخبة، ولا نظريات ترتص على رفوف المكتبات، بل هو واقع يصنعه الجمهور، ومعترك تلتقي فيه العقول أفرادا ومجتمعات وثقافات وحضارات، كل يوم انفصالا واتصالا، تولد عبرها أشكال جديدة للمجتمع، وللوعي بالذات وبالعالم.