هل سمعتم بمبادرة اسمها (Edge of Arabia)؟ ربما عرفتم بها عن طريق الإنترنت أوالصحف. هذه تظاهرة تراثية/حداثية مشرقة تحتفي بالمنجز الفني السعودي عبر عرض أعمال لتشكيليين وفوتوجرافيين سعوديين، رفقة آثار وكنوز تاريخية أخرى. وأرجو ألا يقرر أحدكم أن يزور الفعالية خلال "الويك إند" مع أبنائه أو أصحابه.. لأن المعرض مقام حالياً في إسطنبول!
وعلى نفس المنوال كان معرض (آثار المملكة عبر العصور) والذي احتضنه متحف اللوفر الفرنسي بجلالة قدره الصيف الماضي. ونحن سنفترض أن أي عرض يحظى بمظلة اللوفر لهو عرض "نخب أول" بلا شك. وأخيراً وليس آخراً.. فهناك مبادرة شخصية لمجموعة من الفنانين السعوديين للمشاركة في بينالي فينيسيا الرابع والخمسين خلال الأيام القادمة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لا يستمتع السعوديون بمواهب فنانيهم المعاصرين والغابرين في وطنهم الأم؟ كم (بينالي) و(غاليري) سعودي معتبر يفتح عندنا للعامة وتعلن عنه الصحف؟ سنسأل أيضاً المواطن: من هم أبرز الفنانين التشكيلين السعوديين على الساحة؟ ثم سنختم بالسؤال محور هذه المقالة: هل هناك معهد فنون جميلة رسمي بالسعودية؟
الإجابات في مجملها ستكون مخيبة وغير مقنعة. ونكاد نجزم بأن الذائقة الفنية عموماً هي معدومة وتكاد تكون الممارسة الفنية نخبوية تماماً. وهذا يتعارض مع مبادئ المقررات الدراسية ومع أبجديات خطط رعاية الشباب ووزارة الثقافة. ليس هناك حراك فني سعودي عام. من المدهش أن رعيل الستينات والسبعينات ممثلاً في (صفية بن زقر) و (عبد الحليم رضوي) وغيرهما يكاد يكون حاضراً في الذاكرة الجمعية أكثر مما هي الأسماء والمواهب المعاصرة. وهذا ليس ذنب الفنانين المعاصرين الذين ارتضوا –فيما يبدو- أن يكون "خارج السعودية" هو الوسط الأنسب لعرض أعمالهم السعودية! سؤال آخر هنا: من المسؤول عن هذا الوضع؟
إن الفنون الجميلة هي واحدة من سمات الحضارة المكينة، وهي رسالة عالمية تتخاطب عبرها الشعوب العريقة وتكرس وجودها. المنمنمات الملونة ورسومات المخطوطات القديمة هي واحدة من درر الحضارة الإسلامية المنقرضة التي نطنطن بذكرها.. فضلاً عن جواهر المعمار القديم. ولعله من الملاحظ أن انكماش الاهتمام بالفن التشكيلي اليوم له علاقة باستشراء الثقافة الرقمية: ثقافة الإنترنت التي اختزلت الفن في التصوير الرقمي والتصاميم الباردة العابرة للمدونات أو شعارات "البراند" التجارية.
في الماضي القريب جداً كانت المجلات الورقية الموجهة للنشء طافحة بأسماء فنانين عرب من العيار الثقيل: حلمي التوني وعلي فرزات ومحمد حاكم ومحيي الدين اللباد وبهجت وحجازي وإيهاب ومعلوف وسواهم. أزعم أن القصص المصورة التي أبدعتها ريشات هؤلاء قد هذبت أذواق الجيل الذي عاصرها، وحرضت مخيلاته على الإبداع ومتابعة البحث في التراث الفني العالمي. اليوم فإن الصبي العربي والفتاة العربية لا يقرؤون مجلات مصورة. إنهم أسرى الشاشات: التلفاز الإنترنت والبلاستايشن. أما الأب والأم العربيان فإن حسهم الفني ضعيف جداً لأن الأجندة الفنية الرسمية كسيحة وتملقية.
في المملكة تحديداً فإن الحراك الفني قائم بالكلية على المبادرة الأهلية والجهد الشخصي لمحبي هذا الفن فيما بينهم. وهذا غير كاف لتأسيس وعي فني على المستوى الوطني.
(بيكاسو) مجّد بلده إسبانيا وخلد معاناتها مع الحرب في لوحته المجنونة (غويرنيكا). وفي عصر النهضة كانت روائع (دافينشي) و (مايكل آنجلو) و (رافائيل) أحجار زاوية في نهضة أوروبا الفكرية والعلمية أيضاً. وإلى وقت قريب في بغداد والقاهرة وبيروت تعايش الناس مع مرارات الأيام عبر بدائع الفن من لوحات ومنحوتات وموسيقى راقية محلية الإنتاج.
قد يقول قائل بأن "الأمة" هي أحوج اليوم لنهضة صناعية أو عسكرية. أو أن هموم البطالة والجوع والعوز هي أحوج لاهتمام المسؤولين والكتّاب من "هذر" الفن والرسم والنحت. وهذه رؤية قاصرة، لأن "الحضارة" هي منظومة متكاملة يعضد بعضها بعضاً. والارتقاء بمفاهيم الجمال عند عامة الشعب من شأنه أن يهذب الأخلاق والنفوس، هذه خطوة أساسية ومحورية في حل معضلاتنا الحضارية والحياتية الأخرى التي يقع "المواطن" في قلب كل منها. كما أن تعطيل بعض صروف النهضة في سبيل صروف أخرى إلى حين ميسرة من شأنه أن يعرضنا لوقفة كاملة على كل الصعد، وهكذا فلا نحن كعباً بلغنا.. ولا كلاباً.