كنت عائدا من صلاة العشاء في أحد الجوامع الكبرى بأحد الأحياء الراقية بمكة المكرمة، حين وقعت عيناي على الرصيف بالقرب من الجامع، كانت هناك قطعة مكسورة وقديمة من البلاستيك، وبها بعض الماء الراكد، كان ممتلئا بالقاذورات ومخلفات الطيور، وحول هذه القطعة تناثرت حبات الحب، وقد اصطبغت أرض الرصيف بلون قاتم، جراء تراكم مخلفات الطيور.
وللحقيقة، لم يكن ذلك شيئا جديدا أراه، فهذا المكان على الحال نفسها منذ مدة طويلة، لم يتغير به شيء سوى أنه يزداد قذارة عاما بعد عام، وكان هنالك ذاك الرجل في الخمسينات من العمر، يقوم بوضع الحب والماء بشكل دوري في الموضع نفسه.
أجزم بأنه -وبلا شك- يبتغي الأجر والثواب، فهو يظن أنه يحسن الصنع، ولا أعتقد أنه فكر في التبعات الأخرى السيئة لفعله.
تشجّعت في أحد الأيام، وتحدثت إليه بلطف بالغ، وأوضحت له أنه يقوم بعمل رائع إلا أنه يؤذي المارة وقاصدي الجامع للصلاة، وأن الرصيف أصبح قذرا ورائحته نتنة، وصار مرتعا للنمل والحشرات، وأن هذا لا ينبغي أن يكون أمام بيت من بيوت الله، غير أنه أشاح بوجهه عني قائلا: «إيش عرفك بالأجر».
كان متجهما بشكل لم أستطع فهمه، فلم أملك سوى أن أمضي في سبيلي، ولا أعرف لماذا استحضرت حينها قول المولى جل وعلا في محكم كتابه: «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».
والعجيب في الأمر، أن كثيرا من أمثال صاحبنا لا ينظرون إلى مسألة الأذى الذي يلحق بالمارة جراء فعلهم، فقد حثّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على إماطة الأذى عن الطريق، ولعظم هذا الأمر جعل أجره كأجر الصدقة، فكيف بمن يلقي الأذى في طريق الناس.
أنا لست ضد إطعام البهائم والطيور، ولكنني أتمنى من هؤلاء ممن بادروا بالأمر أن يتموا المكارم، فإن الله عز وجل طيبٌ لا يقبل إلا طيبا، ومن حسن الأدب مع الله أن نتجمل في الصدقة، ونتخير لها الأحسن والأفضل قدر المستطاع، فعلى سبيل المثال لو قام صاحبنا بوضع الحب في أحد الأوعية الكبيرة والمناسبة، ووضع الماء في أباريق مخصصة يتم بيعها في محال الطيور لغرض سقيا الطيور، وتكون مغطاة بدلا من قطعة البلاستيك القذرة التي تجمع الماء الراكد، وتكون مرتعا للبعوض الحامل للأمراض مثل حمى الضنك وغيرها -عافانا الله وإياكم من كل سوء- فبذلك يكون قد أطعم الطيور، لكنه أضر بإخوانه المسلمين ومجتمعه المحيط به.
ومن المواقف التي نراها أيضا، ما يفعله كثيرون من إعطاء مجهولي الهوية الذين يتسولون عند الإشارات الضوئية والمحلات أموالا بدافع الصدقة، ولا يعلم صاحبها عما إذا كان يبذلها لمستحقيها، أم إلى أفراد قد يستغلونها في المتاجرة بالتسول أو في تمويل جماعات مشبوهة.
وقد يقول قائل إنني بذلك أغلق الطريق أمام أبواب الصدقة، غير أني أقول له: إن الأحاديث والآيات التي وردت في باب الصدقة، كلها تحث على تحري المحتاجين والمساكين المستحقين لها، والذين لا يسألون الناس إلحافا، ولنعترف بأن تكاسلنا كثيرا ما يقودنا إلى ترك التحري، وإعطاء الصدقة لمن نجده في طريقنا، دون أن نتكلف عناء البحث والتحري عن المستحقين.
في المقابل، فإن مجالات الصدقة في بلادنا كثيرة -ولله الحمد- فهنالك الهيئات الإغاثية والمشاريع الخيرية والأربطة التي تخفي جنباتها كثيرا من الأيتام والأرامل، ممن لا عائل لهم، وتتعفف نفوسهم عن السؤال.
هؤلاء هم حقا من ينبغي أن نبحث عنهم، وأن نتحرى أحوالهم، وكم أتمنى أن تتولى الجهات الخيرية لدينا بالبحث المتجدد وفق معطيات العصر، ووفق الحاجة لمجالات جديدة للصدقة، مثل دعم بناء المدارس في القرى، وجمعيات علاج المحتاجين، وبناء المساكن، ودعم البحث العلمي، إلى جانب المجالات الحالية المعتادة، مثل بناء المساجد ودور تحفيظ القرآن التي بها وفرة -ولله الحمد- ولن يضيرنا البذل في نواح أخرى متعددة تعود بالنفع على الفرد والمجتمع.
ختاما: حين نفكر في أن نبذل شيئا من الصدقة، يجب أن نعي جيدا أن الله غنيّ عنها، وهو من يملك خزائن السماوات والأرض، وأن نتأدب مع الله، وألا نعتدي بصدقاتنا وكأننا نمنّ بها على الله، بل يجب أن نحرص على بذلها بالطرق الصحيحة، وأن ننفع بها قدر المستطاع، وألا نضر بها أحدا دون أن نعي، فبعض الصدقة وزر.