هل كل ما تعلمناه في الصغر هو أمر مسلم لا يمكن أن يبت النقاش فيه؟ تعلمنا منذ الصغر من باب الاحترام ألا ننقد أفعال معلمينا، وجيراننا وعائلاتنا، وكل أمر يدور ويحدث حولنا،  لكن هل هذا في الواقع تصرف صحيح؟ دعونا ننظر للموضوع بعمق أكثر، مثلا حينما تخبر طفلا بأنه مرتكب جريمة في حق جاره بمجرد أنه نصحه بأسلوب طفولي أمام الناس من شرب السجاير، وأن ذلك يعتبر نقصا في الأدب وقلة في التربية. ذلك التصرف يوصل للطفل رسالة بأن التدخين أمر مقبول، وأن هؤلاء الناس كاملون ومعفون ومجردون من أي خطاء ونقص.





هذه المشكلة لا تنتهي في البيت فقط، بل تمتد للمدرسة أيضا. أذكر في جميع المناهج المدرسية على عكس الجامعية التي مررت بها أنه كان مسموحا لنا فقط بنقد بيت الشاعر. ذلك الشاعر الذي قد يكون متوفى منذ سنين، ضمانا منا أنه لن يسمع ذلك النقد. فبدلا من نقد لا يسمن ولا يغني من جوع، لماذا لا تكون الأولوية مثلا بنقد الكتاب المدرسي الحي الذي بين يدي (الحي أولى من الميت). إذا أمن الشخص أن كل ما حوله كامل لا نقص فيه ولا يحتاج إلى تطوير، بقي مربوطا في مكانه لا يتقدم. وجدير بالذكر هنا أن نجعل الطفل يفرق بين النقد والتجريح، وأن يفرق بين الاحترام وعدمه.

تعليم الطفل مهارات النقد سينمي عقله ويجعله شخصا مُحللا، يبحث ويطور وضعه للأفضل. شخصا فعّالا يخلق أفكارا جديدة ويصنع مستقبلا أفضل.

مع العالم المتطور الذي نعيش فيه من الصعب أن تجعل عقل الطفل كالجماد لا يحس ولا يفسر الواقع الذي يدور حوله.

حينما أتكلم عن مهارات التفكير النقدي هنا، أعني أن الشخص يجزّئ المحتوى الذي بين يديه بمنطقية، ثم يصنف نقاط القوة والضعف فيه، ثم يفكر بطرق لتعزيز وتطوير نقاط القوة، وكيف يوجد حلولا لنقاط الضعف. بذلك ينتج محتوى محسّنا بناء على تحليل الشخص وقراراته. هذا النوع من النقد يجب أن يُبنى على كل ما يحدث في عالمنا، وأعني هنا أن يبدأ الأمر من المدرسة نفسها. كتب جون ميكبيك في كتاب التفكير النقدي والتعليم (تأييد التفكير الناقد في مدارسنا هو إلى حد ما يدعم الحرية والعدالة والبيئة النظيفة). جميع الاختراعات على مدار التاريخ بدأت بفكرة طُبقت في الواقع ثم طُورت. فاختراع المفتاح مثلا في عهد الآشوريين تَطور الآن إلى رقاقة (chip) تُزرع تحت الجلد لتفتح الأبواب، وتدفع ثمن المشتريات، وتقوم بجميع المهام المكتبية بالاتصال بالأجهزة الأخرى.

التفكير النقدي لا يتعامل مع الأمور الملموسة فقط، بل أيضا مع الأفكار، من المهم بل الأهم أن تجعل الطالب يصل إلى مرحلة النقد الفكري أيضا بنجاح. تعليم الطلاب القراءة بنظره ليس فقط تحليله، بل بحيادية أيضاً، تقصي مصادر المعلومات هل هي موثوقة أم لا، مع محاولة فهم لماذا يوجد لدى الطرف الآخر فكرة معاكسة لفكرتي، وجمع المعلومات من مصادر مختلفة. عندها يصل الطالب إلى مرحلة التبلور في استنتاج رأيه الخاص، المبني بعد اكتمال الصورة في ذهنه. هذه المهارة الفكرية التي تعتبر شبه منعدمة في تعليمنا، تولّد طالبا نابضا بالثقة وبالأفكار الجديدة.

عند تجميد النقد في روح وعقل الشخص منذ الطفولة تجعله يؤمن بأن كل ما يراه ويسمعه هو الصواب والحقيقة المطلقة، حتى لو كان من مصادر مجهولة، وذلك يجعل من السهل استغلاله. رأينا نتيجة ذلك في اتجاه بعض شبابنا للفكر الديني المتطرف، والتعصب القبيلي والمذهبي، وتقليد نجوم مواقع التواصل الاجتماعي الوهميين، وغيرهم الكثير. أما آن الأوان لجعل مفهوم النقد إيجابيا أكثر منه سلبيا؟