يستوقفنا في شكوى طالبات بعض الجامعات، من إجراءات «التفتيش» التي يتعرضن لها من قبل الجامعة، مصطلح «التفتيش» ذاته وهو موضوع شكواهن، من حيث دلالته المسيئة، وأفق تشكِّلها بهذا السوء، ونسق الإدراك الاجتماعي لها، وما اعتراه من تغير وتحول.

لم يكن «التفتيش» الذي تقترفه بعض الجامعات في حق طالباتها، مسيئا للطالبات وحسب، بل تكشَّف عن إساءة للجامعة، بدليل واضح هو إقدام الطالبات على الشكوى علناً ضد الجامعة من تفتيشها لهن (في خطابات مقدَّمَة من الطالبات إلى المسؤولين في الجامعة، وفي تقارير إعلامية ونقاشات شاركت فيها بعض أولئك الطالبات ومسؤولي الجامعة في القنوات التلفزيونية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة).

هذا من جهة، ومن جهة أخرى أوضح تدليلاً على الإساءة إلى الجامعة بنسبة فعل التفتيش إليها، مسارعة الجامعة إلى البراءة من تهمة التفتيش، والدفاع ضد الاتهام لها بها، ومحاولة تبريرها والتسبيب لها، وصدور قرار مدير الجامعة التي كانت موضوع شكوى، عاجلا: «بمنع مصادرة جوالات الطالبات، وتفتيشها بأي شكل من الأشكال».

هذا يعني وعياً مستجدّاً من الطالبات تجاه ذواتهن، ومن الجامعة تجاه دورها ومسؤوليتها التعليمية والتربوية. ولكنه في الجهتين دلالة على وعي أكبر يندرج وعي الطالبات والجامعة فيه، هو وعي اللحظة الثقافية الاجتماعية، بما استجدّ فيها من معان وقيم وحقوق، وبما تُبشِّر به.

إنه الوعي الذي لم يُسِغ للطالبات أن يصمتن أو يتغاضين عن الإساءة إليهن، ولم يطمس بصيرتهن عن إدراك الانتهاك لخصوصيتهن الذي يغدو تعدِّياً على حقهن في الحرية والشعور الذاتي بالمسؤولية.

وهو الوعي الذي دفع الجامعة إلى التجاوب مع مقتضياته، وأفقدها الحجة في تبرير سلوكها الارتيابي تجاه الطالبات، إقراراً برشدهن ومسؤوليتهن وكرامتهن وحسن الظن فيهن.

ومن شأن ذلك أن يوجب على الجامعة مراجعة معتقداتها الأخلاقية في استخدام التسلط المادي والحسي على الطالبات بدعوى المحافظة على أخلاقهن القويمة. لأن هذا التسلط في ضوء الوعي الجديد، انتهاك لحقوق الطالبات، وهو إلى ذلك -وهذا هو الأهم للجامعة- دلالة على عجز الجامعة وإفلاسها في أن تغرس بما تقدمه من مادة علمية وما تحتكم إليه من أخلاقيات في نفوس الطالبات الأخلاق الحميدة والإحساس الذاتي بالمسؤولية الأخلاقية والدينية بعيدا عن أي رقابة خارجية.

لم يكن هذا الوعي لدى الطالبات ولا لدى الجامعة ظاهراً قبل هذه اللحظة التاريخية الثقافية الاجتماعية. ليس لأن التفتيش لم يكن -من قبل- إساءة وتسلطاً، ولكن لأن الطالبات لم يكنّ يشعرن بما فيه من إساءة وإهانة وتسلط، بسبب اعتيادهن عليه، أو اعتقادهن بصوابه، أو لأن التعبير عن هذا الشعور لم يكن ممكناً لهن. ولأن الجامعة لم تكن تجد حرجاً في ممارسته على طالباتها، بل الأحرى أنها كانت تجد فيه مفخرة لها لأنها تدلِّل به على صرامة رقابية على الأخلاق، وحسن محافظة ورعاية لها.

الشعور المستجد من قِبَل الطالبات بدلالة التفتيش على الإهانة لهن، ومن الجامعة بدلالته على ما يحرجها، يعني تجدُّد الوعي وتطوره، وذلك لأن الوعي ظاهرة تجمع في علاقة متحوِّلة دائماً بين فعل الإدراك للموضوعات والوقائع (الإدراك هنا لمعطيات ظرف جديد) وبين ممارسته فعل الشعور وإضفاء المعنى، وهذا هو ما يجعله في الموضع الأول من جهة الحساب لما ينتجه الإنسان من معان وأشكال ومعرفة وقيم وأحكام.

هكذا لا يبقى هناك معنى مستقلا وسابقا على الوعي وخارج دائرته: لا يبقى هناك معنى خارج فهم الإنسان وتأويله. فحادثة مفزعة -على سبيل المثال- كالقتل يمكن أن تكون من وجهة معينة جريمة نكراء، ومن وجهة أخرى تطهيرا من الفساد، واستئصالا للشر...

يذكُر الآن أولئك الذين عاشوا تجربة الإسكان الجامعي من الذكور، في السبعينات والثمانينات الميلادية، التفتيش الذي كان يمارس عليهم -في بعض الجامعات- بحثا عن مجلة فيها صور فتيات، أو جهاز تسجيل وشرائط أغان،

أو «الداهية الدهياء»: جهاز تلفزيون مخبأ تحت السرير (كان التلفزيون محرما حتى في صالة عامة في السكن، وهو لا يبُث في تلك الأيام إلا القناة الأولى السعودية).

لم يكن يخطر في أذهان الطلاب آنذاك أن يشتكوا لدى مسؤولي الجامعة، من مصادرة مشرف السكن الجامعي جهاز تسجيل أحدهم، أو أي ممتلكات أخرى. كانوا يشعرون -حيناً- أنهم مذنبون فعلاً، ويخافون -في كل الأحيان- من إنزال عقوبة أكبر في حقهم (غالبا كان المشرف يصادر الأشياء من دون مساءلة أو عقوبات أخرى لأنه يستولي عليها!).

وكان أفظع ممارسات الرقابة والتفتيش تلك، تعيين إدارة الإسكان لبعض الطلاب المعروفين بتشددهم الديني ونزوعهم إلى التسلط، ليمارسوا دور المُخبر، اعتقادا من الإدارة بـ«استقامتهم» ورغبة في إحكام طوق الرقابة. وهنا يبدو العجب كله في تغطرس الطالب على زملائه، ونكايته ببعض من يُضمر لهم الضغينة، وتوسيع دائرة المحظورات، وإشاعة النفاق والتكاذب، والاضطرار إليهما.

من داخل دائرة هذا الوعي المهيمن، وهو وعي تقليدي وإيديولوجي واستبدادي، كانت هذه الممارسة الرقابية والتفتيشية مبرَّرة أخلاقياً، بل تبدو وكأنها مطلوبة وضرورية لتنشئة قياسية ونوعية محددة. أما من خارج هذا الوعي فلن يرى المرء أي فضيلة في أخلاق تَنْشَأ في مناخ الوصاية والتفتيش، بل سيرى على عكس ذلك أخلاق الملق والحيلة والخنوع وثقافة الاضطرار.

الوعي بالعلاقة بين الحرية والأخلاق ليس جديدا، على أي حال، بل قديم قدم وعي الإنسان بإنسانيته، وممَّن تحدث عن ضرر الوعي القمعي والتسلطي على الأخلاق ابن خلدون، وذلك في توصيف دقيق للأضرار المترتبة على ذلك من وجهة دالة على الوعي التربوي والسيكولوجي، وعلى نحو يضارع أحدث النظريات. يقول في مقدمته:

«ومن كان مرباه بالعسف والقهر... سطا به القهر وضيَّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخُبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخُلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين».

تتوارد دلالة «التفتيش» من جهة اللغة، مع دلالة «البحث» في معنى طلب شيء، والكشف عنه، واستيضاحه، وفحصه... تقول: فتَّشتُ عن كلمة «كذا» في المعجم، مثلما تقول: بحثت. لكن في التفتيش دلالة على اعتقاد المفتِّش -حين يتجه التفتيش إلى أشخاص- في قصد من يُفتشه إلى التخبئة والإخفاء، وأنه يُبطن غير ما يُظهر. ومن هنا كان «التفتيش» معبَّأً بمعنى الاتهام للنية، وبمعنى التسلط والقهر والرغبة في الإخضاع.

وهذه دلالة تبرأ من سوء اعتقادها ومعناها القمعي حين تأخذ معاني عمومية أمنية، مثل تفتيش ركاب الطائرة في مطارات العالم كله.