يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات} هذه وصية نبوية، عظيمة النفع، لم يقل عليه الصلاة والسلام {فليذهب إليه ليُقنعه أو يجادله} وإنما قال: {فلينأ عنه} أي: يبعد عنه، ويجتنبه، فالعافية لا يعدلها شيء، والمؤمن العاقل لا يجعل دينه عرضة للخصومات، لأن من فعل ذلك أكثر التنقل، وصار كل يوم له دين، وقد قال رجل من أهل الجدل مُتَّهم بالإرجاء للإمام مالك: اسمع مني، فوالله ما أريد إلا الحق، فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم، فقال الإمام مالك: فإن غلبتَني؟ قال: اتَّبِعني. قال: فإن غلبتُك؟ قال: اتبعتُك، قال: فإن جاء رجل فكلمنا فغلبَنا، قال: اتَّبعناه، فقال مالك: يا هذا، إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بدينٍ واحد، وأراك تتنقل من دينٍ الى دين.

ولهذا لما جَاء رَجُلٌ إِلَى الحسن، وقال له تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرتُ ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمِسه، والسلف لا يحبون الجدل، لا عن عجز وضعف، كلا، ولكن لأنهم يعلمون أنه ما ضلَّ قوم إلا أوتوا الجدل، لاسيما الجدل العقيم، الذي لا ينصر حقا، ولا يبطل باطلا، وإنما هو أغاليط، واتباع للشبهات، وإظهار للعضلات، وتصفيةٌ للحسابات، وإضاعة للأوقات.

ونبينا عليه الصلاة والسلام حريصٌ علينا، بالمؤمنين رؤوف رحيم، حذرنا من إتيان الدجال، لما معه من الكذب والتمويه والمظاهر الخادعة، فربما يأتيه الإنسان معجب بنفسه وعلمه وإيمانه، فتستقر شبهات الدجال في قلبه، فيتبعه، ويهلك، لا لأن الدجال على حق، ولكن لأن الشُبه خطَّافة، وقد يكون الإنسان غير راسخ في دينه وعلمه، فتشوش عليه الشبهات، وإلا فقد نبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن هناك من أهل الإيمان من يَرُد على الدجال ويُكذِّبه، رغم فتنته العظيمة والتي منها أنه ينظر إلى السماء فيقول لها: أمطري فتمطر، وينظر إلى الأرض فيأمرها أن تنبت فتنبت، ويأتي على الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها،

 ومن فتنته أنَّ معه ماءً وناراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأما الذي يراه الناس ناراً فماءٌ بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً فإنه عذب طيب»، مع هذه الفتن العظيمة يقول له المؤمن الموفق: (والله ما ازددت فيك إلا بصيرة؛ أنت الأعور الكذاب، أنت الدجال الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم)، فمع أن رسولنا عليه الصلاة والسلام بيَّن لنا صفاته وأنه أعور، ومكتوب بين عينيه: كافر، وأن ماءه نار، وناره ماء، مع ذلك كله: أمرنا بالبعد عنه، فقال: (من سمع بالدجال فلينأ عنه)، وهكذا الشأن في دجاجلة زماننا، الذين اتخذوا الكذب والتمويه والتشكيك مهارةً وصناعة، يتعين كذلك النأي عنهم، والإعراض عن جدلهم ولغوهم، سواء نشروه في وسائل التواصل، أو في الفضائيات أو غيرهما، ودليل ذلك قوله تعالى في وصف أهل الإيمان (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين)، وقوله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعدَ الذكرى مع القوم الظالمين)، ونبينا عليه الصلاة والسلام أمرنا بالبعد عن الدجاجلة، ومتبعي المشتبهات، لأن من أُشرب هواه لا حيلة فيه، ولو جاءته كل آية، فإن قيل: ألا يمكن المناظرة والحوار لإقامة الحجة، وبيان الحق، قلنا: هذا من شأن العلماء الراسخين في تخصصهم، إذا رأوا المصلحة في المناظرة، وقد يرون المصلحة في الإعراض، لئلا يشتهر الباطل، وكما قيل: (أميتوا الباطل بعدم ذكره)، فهذه أمور يُقدرها الراسخون في العلم، وليس كلأً مباحا لكل من أُعجِب بنفسه، والعاقل يعرض عن الشبهات وعلم الكلام، حتى لا يكون قلبه كالإسفنجة يتشرب الشبهات، فلا يستطيع الخلاص منها، وكثير ممن دخل ذلك من العلماء فضلا عن غيرهم ندم على ذلك أشد الندم، فهذا أبو المعالي الجويني يقول: (لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور)، وقال أبو بكر ابن العربي (شيخنا أبو حامد الغزالي ابتلع الفلسفة فأراد أن يتقيأها فما استطاع)، والناظر في الواقع يرى قوما كانوا من طلبة العلم الأخيار، دخلوا في الشبهات، واندمجوا مع أهل الأهواء، فآل أمرهم إلى كونهم يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، نعوذ بالله من الفتن، ومن الدجل في زماننا: ما تزخر به آلاف الحسابات في مواقع التواصل، وبعض الفضائيات، من إرجاف وتخويف وإشاعات وإثارة للفتن بين الراعي والرعية، وبين الرعية نفسها، يدير تلك الحسابات، ويتكلم في تلك الفضائيات أقوامٌ يظنون أنفسهم محللين سياسين، وخبراء استراتيجيين، ومختصين بالحركات والجماعات، والواقع أن كثيرا منهم جهال في حقائق ما يتكلمون فيه، وكل هذا مع الأسف مباح في دجل كثير من الفضائيات ووسائل التواصل، بحجة الإثارة، والاستفزاز وجس النبض ومعرفة مدى ردة الفعل!