تحدثت في مقال قديم عن اللغة والجمل المفخخة التي تستعمل لترويج أفكار معينة، أو لإثارة البلبلة والشغب الفارغ، وأعني بهذا ما يسميه بعضهم خطأ بـ«الحوار»، قياسا خاطئا على الحوار البناء القائم على الاختلاف المثمر. ومن تلك الجمل المفخخة «القيادة مفتاح الريادة؟»، السؤال الذي كان عنوانا لحلقة من برنامج حواري على قناة «فرنسا 24»، الذي استضيفت فيه السيدة آمال المعلمي، وكيلة مركز الحوار الوطني.
ينتمي ذلك العنوان لمجموعة من المحددات الثقافية، اختارها الإعلام العالمي دون غيرها لتفصيل صورة نمطية مشوهة للمملكة العربية السعودية، ولقياس تقدمها المدني، وفق معايير تفرض عليها من خارجها، في انتقاص لحق المجتمع السعودي في اختيار معتقداته وطريقته الخاصة للتحول الحضاري. وتلك الصورة مبنية على مفهومين، كل واحد منهما مشحون بعدد من الدلالات والإحالات، أولهما: الإعلام أداة محايدة قابلة لخدمة التحيزات، وثانيهما: الإنسان السعودي بما يحيل إليه النعت من محمولات تتعلق بالهوية، كيف يمكن الجمع بينهما (أولا وثانيا) في منطقة وجودية متحركة واحدة، من دون أن يفقد أي واحد منهما شكله وشروط وجوده؟
كان للإعلام دوره في التحولات الاجتماعية في مجتمعنا بتدرجاتها، لكن ما أتحدث عنه الآن هو دوره في تمثيل هذه التحولات للعالم الخارجي. يحدث ذلك بواسطة شكل الحضور السعودي في الفضاء الإعلامي، والمسافة التي يختارها بين الاحتفاظ بقيم تكونت في بيئة ثقافية محلية، أو التجرد منها ثمنا لإرضاء تحيزات الآخر. يزيد الأمر تعقيدا إن تذكرنا العامل الذاتي الفردي للمتحدث، بوصفه فردا يمثل مجتمعا خليطا من تيارات متعددة، ووجهات نظر مختلفة، قد يختلف مع بعضها.
الإعلام اليوم هو الوجه الآخر للسياسة، كلاهما مراوغ، وتحكمه المصلحة أكثر من القيم، ويجد كثيرون أنفسهم مضطرين للاختيار من بين الجانبين، مما يؤدي بهم لخسارة الآخر. يتطلب تفادي الخسارة مستوى معينا من الذكاء، ومزيجا خاصا من الثقافة، والنباهة، وسرعة البديهة، يقف ما سبق على رصيد لغوي قادر على تمثيل كل ذلك، ودعمه بالمعجم الملائم. ذلك ما وجده المشاهد العربي للسيدة «آمال المعلمي»، في الحوار المعني، حين أراد المحاور وضعها في خانة المدافع عن تهمة، فكشفت سوأة التحيز الإعلامي، والحشد ضد المملكة، حتى في أكثر القنوات ادعاء للحياد (وليس من بينها القناة المعنية). لقد عكست الموقف فوضعته في موضع المتخلف عن استراتيجيات الحوار، في محاولاته المستميتة التصغير من تاريخ المملكة، واختصار منجزها الحضاري فيما وصفته الدكتورة آمال بـ«حبة الكرز على قالب الكيك».
بكل الطرق ومن كل الجهات حاول المحاور إحراج ضيفته لتصدق على الصورة المشوهة التي يرسمها لبلادها، ومن دون خجل حاول ترسيخ صورة متخلفة للمملكة لحد فرض قيم مجتمعه المحلي قدوة ونموذجا لها! لكنها امتلكت زمام الحوار، واستطاعت أن تمثل - بحنكتها في الحوار، وخبرتها في سنن الحضارة- صورة واقعية للمملكة الحديثة التي تتعايش فيها الثقافات، وتتفاعل التوجهات، بإشراف من القيادة، وحفظ لحقوق الجميع في التعبير عن مواقفهم. لقد أظهرت المتحدثة المملكة -على حقيقتها- نموذجا يحتذى (لمن شاء)، في التقدم والنماء الثقافي والاجتماعي، انطلاقا من هويتها، دون تعارض بين الخصوصية والتقدم الحضاري. وتَبيّن للمشاهد أن التبعية لإملاءات الآخر، والانسلاخ من الهوية لصالح هوية أخرى، ليسا معيارا منطقيا للتقدم.
لم تتدخل المملكة يوما في أي دولة أخرى، ولم تفرض على الآخر ثقافتها، بل تقبلت كل الطوائف والانتماءات على أرضها بحب، ورحابة صدر، لكن الآخرين جعلوها هدفا لطعنات من القريب قبل البعيد، في سعي حثيث للنيل من مكانتها في قيادة العالمين العربي والإسلامي، كان الإعلام هو سلاحه، وخصوصيتها الثقافية نقاطا للاستهداف. واستمعنا إلى إعلاميين يستنهضون القوى السياسية المهيمنة في العالم للتدخل في شؤون وطننا الداخلية، مستخدمين المنابر الإعلامية لبث احتقاناتهم الشخصية على الهواء.
وفي زمن سلاحه الأمضى هو الإعلام علينا أن نضاعف إمكاناتنا في توظيف هذا السلاح، ونضاعف طاقاتنا في التمثيل الإعلامي -كمّا ونوعا- تمثيلا دبلوماسيا، وفي الحوارات على أكثر القنوات انتشارا. ولعلنا نكتشف هذه الطاقات في مثل الحوار الذي قدم لنا المتحدثة الذكية، القادرة على كسب أي حوار لصالح من تمثله المتحدثة والمحاورة الماهرة، السيدة آمال المعلمي.