تغييرات اجتماعية واقتصادية وتنظيمية بتشريعات حكومية نشهدها هذه الأيام، والأغلب أنها سوف تتواصل في المرحلة المقبلة. وهو أمر كان متوقعاً حصوله وإنما ليس بهذه السرعة وبهذا الحسم. ولعل التغييرات الاجتماعية هي الأكثر أهمية وإثارة للجدل بالنسبة للمجتمع السعودي، وخاصة فيما يتعلق بقضايا المرأة. فبعد أن تم كسر الصنم الأكبر و«التابو» الأعظم وهو السماح بقيادتها للسيارة، فإن حسم الأمور الأخرى لا يعدو كونه مسألة وقت. وبالنسبة للمطالبين والداعمين لحقوق الناس عامة والنساء خاصة، فإن هذه أخبار مبهجة تفتح باباً للتفاؤل بالمستقبل كان منتظراً. وبالنسبة لأولئك المنحازين دائماً وأبداً للحياد أو للوقوف في منتصف الطريق بين الفريقين، فهؤلاء سيتكيفون كعادتهم مع الأوضاع الجديدة دون مشكلات تذكر. ويتبقى الفريق الرافض والممانع، والذي أمضى عقوداً مؤمناً بأفكاره بأن مكان المرأة في المقعد الخلفي، وفي قعر المنزل، وفي الصف الأخير في أي تجمع بشري. بل إنه عمد على نشر هذه الأفكار، فعلمها لأولاده، ونشرها بين طلابه وأهله ومجتمعه. فكيف سيواجه هذا التغيير الجديد؟
لاشك أن تغيير القناعات ليس بالأمر السهل، بل لو أن عملية تغييرها كانت سهلة لما صح أنها قناعات، وإنما مجرد رداء تسربل به ليكسب الإعجاب أو المناصب أو الاحترام في بيئة بعينها. وأمثال هؤلاء موجودون وانكشفوا يوم صدور القرار برفع الحظر عن القيادة، إذ انتقلوا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بين ليلة وضحاها! فخسروا احترام أنفسهم قبل الآخرين.
وإنما الحديث عن الذين يعتقدون جازمين أن دور المرأة الحقيقي، هو ذلك الدور الذي تم محاولة حصرها فيه خلال الأربعين سنة الماضية، بحيث يفضل أن تبقى في المنزل، وعلى هامش الحياة العامة، وإن كان ولا بد من خروجها، فبشروط وقيود، وإن كان لا بد من عملها ففي مجالات بعينها كالتعليم والطب. ومع أن المرأة السعودية قاومت الحصار والتعنت، وفتحت لنفسها أبواباً وآفاقاً جديدة في العلم والعمل، إلا أن الثمن كان مواجهة تحديات كبيرة اجتماعية وعملية. المشكلة الأكبر التي يعيشها هؤلاء الممانعون هي وجود تبريرات دينية لأفكارهم الشخصية، وتم لي أعناق النصوص أحياناً لتبرير التعامل مع المرأة كمواطن يستحق حقوقاً أقل، وتقديس التقاليد الجاهلية تحت غطاء إسلامي، وحينما يتعلق الأمر بالدين والاعتقاد فلا شك أن الأمر يصبح أكثر تعقيداً، فكأنما أنت تطالب شخصاً بأن يبدل إيمانه. والمشكلة أنهم كانوا يتجاهلون النصوص الأخرى التي تخالف وجهات نظرهم، ويرفضون الاستشهاد بالممارسات التقدمية للمرأة العربية المسلمة في القرون المفضلة، بدعوى أن الزمان قد تغير وأننا في زمن فتن وبالتالي يستلزم تشريعات وتنظيمات أكثر حزماً.
السبب الآخر الذي يجعل الأمر أكثر صعوبة عليهم، هو أن المبررات لم تكن دينية فحسب، إذ يخطئ من يظن أن التيار المتشدد أو تيار الصحوة وحده كان – أو لا يزال - معارضاً لحقوق المرأة. فهناك ممانعات قبلية واجتماعية، وحتى حكومية، وإلا لما استطاع الخطباء والكتاب والمعلمون وغيرهم نشر تلك الأفكار دون محاسبة. بل إن بعض الأنظمة هي التي كانت ولا تزال تنظم عدم قيادة المرأة، وعدم سفرها دون موافقة ولي أمر، وعدم قدرتها على تجديد جواز سفرها – حتى مع وجود حساب لها في أبشر- إلا عن طريق ولي أمرها، وهي التي تضع المناهج التعليمية والتنظيمات المدرسية والجامعية، وأمور أخرى كثيرة.
فالإنسان في الأخير ابن بيئته، فالموقف المتشدد من المرأة قد تربى عليه في بيته، وتعلم عنه في مدرسته، واستمع له في مسجده، وتعامل به مع مؤسسات دولته، فكان هذا هو الوضع الطبيعي بالنسبة له، وهذه الأفكار مسلمات لا يعتد بغيرها، بل إن المتوقع أن تكون غالبية الناس، خاصة من غير المتضررين (أي الرجال) بنفس هذا التفكير. والذين شذوا فذلك لانفتاحهم على أفكار شخصية إما برغبة شخصية أو نتيجة للظروف الحياتية البيئة الخاصة والتي رافقت نشأتهم.
ومع أن على هذه الفئة أن تواجه مشكلاتها بنفسها، وتجتاز التحديات الجديدة بأقل الخسائر، وهي تحتاج وقتاً كافياً، فلن يكون مستوى التقبل واحداً لدى الجميع. أما واجبنا كمجتمع وكمثقفين هو أن نساعدهم عن طريق بيان بأننا جميعاً نبحث في النهاية عن الأصلح لمجتمعنا، وعدم تصوير القضية على أنها انتصار لجماعة ضد أخرى، أو تغلب تيار علــى آخر، كما قام به للأسف بعض الكتاب ومشاهير المغردين. فهدفنا في النهاية مجتمع آمن مسالم مترابط ومتجانس رغم الاختلاف الطبيعي بين البشر، وليس مجتمعا محتقنا متشنجا يبحث المرء فيه عن زلات أخيه. مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية بين الناس بغض النظر عن جنسهم أو أية اعتبارات أخرى.
ولعلها فرصة لنتعلم جميعاً أن التعصب لا يأتِ بخير، وأن أخذ مواقف متشنجة في قضايا غير مصيرية لا مبرر له، وفي القضايا التي يكون فيها فريقان لكل منهما حججه القوية، فليس مطلوباً منا الانحياز لأحدهما بالمطلق، فالحياد في حد ذاته بطولة أحياناً.