خطت رابطة العالم الإسلامي خطوة كبيرة في سبيل تصحيح صورة الإسلام في الغرب، وإزالة ما علق بها من شوائب، بسبب تصرفات قلة محسوبة من المنتمين له، أخطأوا تفسيره، وتشددوا في تأويل معانيه، وأساءوا إليه، فتحولت صورته النقية الناصعة في أذهان الآخرين إلى صورة الدين الذي يدعم العنف، ويحرض على التطرف، ويرفض الآخر، ويشجع إقصاءه، لذلك كان لزاما على الغيورين والصادقين من أبناء أمة الإسلام أن يبادروا إلى إزالة ما علق بصورة الدين الحنيف، ونفي ارتباطه بالعنف والغلو، وتأكيد وسطيته وسماحته. ورغم كثرة الجهود التي بذلتها في السابق جهات عديدة، وشخصيات متعددة، أقامت الندوات وعقدت المؤتمرات ونشرت المطبوعات، إلا أنها للأسف ظلت قليلة الأثر ومحدودة التأثير، بسبب الآلية التقليدية التي عقدت بها تلك الأنشطة، رغم ما صُرفت عليها من أموال وأموال، فقد ذهبت الوفود وتحدث أعضاؤها وكان الطرف الآخر المستهدف من تلك الأنشطة يقف في موقف المستمع، وعادت تلك الوفود وظن القائمون عليها أنهم أنجزوا مهمتهم على أكمل وجه، دون إدراك أن الآخرون قد سئموا من الاستماع، ويريدون أن يطرحوا همومهم وآراءهم ووجهات نظرهم، وأن يجدوا إجابات شافية عليها.
ما فعلته رابطة العالم في السادس عشر من سبتمبر الماضي كان مختلفا تمام الاختلاف عن تلك الصورة التقليدية، فقد ركزت خلال مؤتمرها الذي عقدته في نيويورك بعنوان «التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة الأميركية والعالم الإسلامي» على الاستماع لهموم الغربيين، واستعانت بثلة من العلماء والأكاديميين والمفكرين الذين يدركون نفسية الطرف الآخر، ويعلمون هواجسه، ويملكون القدرة على مخاطبته بلغته. لم تكتف الرابطة بمجرد الحديث، بل أدارت خلال المؤتمر حوارا هادفا بين أتباع الأديان السماوية بطريقة متميزة، أتاحت فيه الفرصة كاملة لمن لديه هواجس، أو تشابهت عليه الأمور، وبعد ذلك تمت الإجابة عن كل تلك التساؤلات بطريقة علمية مختصرة، وأدلة مقنعة. ومتابعاتي للمؤتمر من خلال وسائل الإعلام العالمية، وما سمعته من بعض المشاركين تؤكد أن الحوار الذي تم لم يكن حوار مجاملة مكرورة، بل كان حوارا جادا وصل في بعض الأحيان إلى مرحلة الحدة، إلا أن الجميع التزم بالإيجابية والرغبة في التوصل إلى المشتركات.
ولعل أكثر ما يلفت النظر في ذلك المؤتمر هو متلازمة الزمان والمكان، فقد عقد في السادس عشر من سبتمبر، أي بعد خمسة أيام من الذكرى السادسة عشرة لتلك الأحداث الأليمة، وهي أيام لا زالت ذاكرة الأميركيين تسترجع فيها شريطا حالك السواد من الأحداث، ويستعيدون ذكرى أحبائهم الذين فقدوهم، كما عقدت أعمال المؤتمر قريبا من موقع الاعتداءات، ولا أخال أن هذا التزامن كان صدفة أو أن مغزاه ومعانيه قد فاتتا على فطنة القائمين على أمر الرابطة وربانها الماهر معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، الذي اعتاد الإجادة في كل عمل يوكل إليه.
كذلك كان موضوع المؤتمر وعنوانه من أبرز أسباب التفرد والإجادة، فالمحاور كلها ركزت على كيفية تعزيز التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة ودول العالم الإسلامي، والبحث عن القواسم المشتركة التي تجمع بين الطرفين، والآليات الكفيلة بتعميقها وتعزيزها، وحتمية تجاوز نقاط التقاطع والتضاد، إن وجدت، ولا أظن أحدا يشكك في مكانة الولايات المتحدة بالعالم، فهي الدولة القائدة، وإذا ما تعززت العلاقات الحضارية بينها وبين دول العالم الإسلامي، فلا ريب أنها سوف تتعمق بالضرورة مع بقية الدول الغربية، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار التركيبة الفريدة لمجتمع الولايات المتحدة، والتي هي عبارة عن مجتمع مفتوح وخليط لمواطنين ينحدرون من مختلف دول العالم وقاراته.
ومما تسبب في نجاح المؤتمر قائمة المشاركين والمدعوين الذين تم انتقاؤهم بعناية فائقة، فقد شارك قرابة 450 عالما ومفكرا إسلاميا وأميركيا، من بينهم ممثلون عن المؤسسات الإسلامية من جميع دول العالم ونظراؤهم الأميركيون، إضافة إلى أكاديميين من مؤسسات علمية وفكرية وسياسية من عموم دول العالم. وهذا العدد الكبير يؤكد حرص الرابطة على أن يكون وفدها المشارك ممثلا لكافة المؤسسات المعنية بشؤون المسلمين في العالم.
لا أراني مبالغا إذا قلت إن الرابطة بهذا المؤتمر نقلت العالم الإسلامي من مرحلة رد الفعل التي غالبا ما تكون متشنجة ومتوترة إلى مرحلة الفعل الذي يتسم بالتخطيط والهدوء، فقد كنا في السابق نكتفي بالرد على من يهاجم ديننا، فيقوم البعض بتنظيم المظاهرات الصاخبة والمسيرات المليونية، التي لا تؤدي إلا إلى زيادة تشويه الصورة وإساءتها، بسبب ما ترتكب فيها من تجاوزات، تشمل التخريب والتدمير وحرق الأعلام، وهي أفعال ما زادتنا إلا بعدا عن الآخر، وانكفاء وتقوقعا. حتى دعوات المقاطعة الاقتصادية، لم تعد مجدية، لاسيما في ظل النظام العالمي الاقتصادي الجديد الذي تحكمه منظمة التجارة العالمية، إذاً فالطريق الوحيد الذي أمامنا هو أن نعرض ما لدينا على الآخر، وهو ما قامت به الرابطة باقتدار. ولا ينبغي إغفال أن ذلك المؤتمر، إضافة إلى نجاحه في تحقيق الأهداف المرجوة منه بتحسين صورة الإسلام، نجح أيضا في تحقيق مكاسب كبيرة للمملكة، لاسيما أنه أتى في وقت تواجه فيه السعودية محاولات إساءة متعمدة تقوم بها منظمات حقوقية دولية تقف وراءها شخصيات مأجورة، لا يهمها إلا توجيه الإساءات لبلادنا ورميها بما ليس فيها، وكثير من وسائل الإعلام والصحف الغربية التي اهتمت بأخبار المؤتمر أوردت أن المملكة هي التي تنظمه، وتطرقت إلى المؤتمرات المشابهة التي عقدت في مقر الأمم المتحدة، وأشارت إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها لإثراء الحوار بين أتباع الأديان.
ولم تكد الرابطة تفرغ من عقد المؤتمر الحدث، حتى بادر أمينها العام بخطوة أخرى لا تقل عنه أهمية وهي زيارته لمقر الفاتيكان، حيث التقى البابا ودار حوار طويل بين الرجلين تناول قضايا الأقليات المسلمة ومشكلات الروهينجا، وهي القضايا التي واصل فيها تصريحاته الإيجابية حولها وجدد تأكيده على براءة الإسلام من الإرهاب، ودعا أتباعه إلى عدم الخلط بين الاثنين.
أخيرا أهمس في أذن أستاذي معالي الدكتور العيسى بأن الطريق لا زال طويلا، وكلي ثقة بأن الرابطة التي يرجى منها الكثير في هذا الصدد قادرة تحت قيادتكم على القيام بما هو مرجو منها، وأننا على ثقة بأننا سنرى منكم أكثر مما نتوقع، وهذا ليس من قبيل حسن الظن فقط، إنما قناعة ومعرفة بما تحملونه من قدرات وأفكار ورؤى تطويرية غير تقليدية.