وجود الاتجاهات الفكرية العامة أمر بدهي، وهو تابع لسنة التدافع بين الناس التي تشمل الأفكار، كما أنه تابع لسنة الاختلاف الضامنة – ضمنا - للتعايش برغم وجود الاختلاف، والضامنة للتمحيص والتمييز أيضا، وذلك كله إيجابي؛ لأن أحادية الرؤية تتنافى مع السنن الإلهية، غير أن وجود تيارات فكرية عامة لا يعني الانسياق الكامل خلف أدبياتها، ولا يعني التحول إلى شكل من أشكال العبودية الفكرية المعطلة لعقل الفرد؛ لأن هذا الانسياق الكامل يتنافى مع أوامر الله – سبحانه – الصريحة والكثيرة بالتدبر والتفكر وإعمال العقل الذي هو ملْك فردي ينبغي ألا يُؤجّر أو يسترخي أو يتّكل أو يُستعبد، ومعنى ذلك أنه يُستخدم مفرداً قبل أن ينساق، وقبل أن يتّبع عقولا أخرى اتباعا عبودياً يحوّله إلى خلية منها، وإلى أداة لأصحابها، عوضا عن أن يكون عقلا مستقلا نشطاً متدبرا متأملا متبصرا، وقبل أن يُعطّل حين ينيب عنه عقلا آخر يفكر عنه، ليصير عقلا موجوداً بوصفه كتلةً، وغير موجود بوصفه عقلا ذا وظائف، والنتيجة أن صاحبه بلا عقل حقيقي.
يقول لي عقلي إن التبعية الفكرية المطلقة مخالفة بيّنة للأوامر الإلهية بالتفكير، وتجاهل واضح لآيات الحث على التبصر والتدبر، وهي كثيرة في القرآن الكريم. قال تعالى في سورة الروم: (أولم يتفكروا في أنفسهِم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون)، وقال سبحانه في سورة سبأ: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة)، وقال – جل شأنه – في سورة الذاريات: (وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون)، وقال سبحانه في سورة الملك قولا فاصلا في أهمية استعمال العقل للنجاة: (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
أزعم أن التبعية الفكرية المطلقة التي تنجم عنها أحادية الرؤية، من أهم أسباب فساد الحياة برمتها؛ ذلك أنها تتنافى مع ما ذكرته في الفقرتين السابقتين، وتتضاد مع فكرة الإصلاح بوصفها الطريق إلى النهوض والتقدم اللذين يحققان فكرة الاستخلاف في الأرض، ويحولان دون الإفساد فيها.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن التبعية الفكرية باتت ظاهرة عامة، وهناك من ينظّر لها، ويحفز التابعين على الاستمرار فيها بمحفزات كثيرة، أدناها المدح والإشادة، وأعلاها الدعم المادي والاجتماعي والوظيفي، حتى بات التابعون معطلو عقولهم أيسر حالا، وأعلى شأنا من المستقلين بعقولهم، وتلك معادلة مقلوبة دالة على خلل كبير ناجم عن توظيفات منحرفة وخبيثة لمعنى الانقياد الإيماني، وعن تأويلات محرِّفة للنصوص، من أجل تحقيق أهداف اجتماعية أو سياسية قائمة على الشعبوية المتمثلة في التابعين.
قد يقول قائل: إنك تتوهم تحول التبعية الفكرية إلى ظاهرة لها أسبابها ومؤيدوها، فأقول: إن جولة مسحية سريعة في مواقع التواصل الاجتماعي – وبخاصة تويتر - كفيلة بالتحقق من ذلك؛ إذ بات وجود فئات يتفق أفرادها اتفاقاً تاماً في الرأي تجاه موضوع معين، ظاهرة حقيقية، حتى أنهم يتفقون في أساليب شتم المختلفين والمخالفين، وفي ألفاظ «اللمز والنبز» بالألقاب لكل من لا يوافق رأيه الفردي رأيهم الجمعي.
اتفاق هؤلاء ـ على اختلاف بيئاتهم ـ لا يمكن أن يكون طبيعياً مهما سقنا من المبررات؛ ذلك أنه اتفاقٌ مناف لأهم سمات الإنسان، وهي: التفكير والتبصر، فضلا عن أن العقول لا بد أن تختلف في المنطلقات، وزاويا النظر إلى الأشياء، ولغة التناول، فيما أفراد هذه الفئات لا يختلفون أبدا حتى حول البشاعات المنافية للإنساني، فتجدهم كلهم – مثلا – يتشفون بإنسان مظلوم ظلماً بيّناً أجمعَ ذوو الفِطر الإنسانية السليمة على التعاطف معه، وليتهم يتشفون بوصفهم أفرادا مستقلين، وإنما يفعلونه والفرد منهم يرى نفسه «عوداً في حزمة»؛ ولذا يتكتلون خلف الرأي الشامت تكتلا عجيباً يصل بهم إلى استخدام الألفاظ نفسها.
أتساءل أسئلة متداخلة: هل هؤلاء مؤمنون بما يكتبونه؟ ولماذا كل هذا الإخلاص، وتلك المثابرة، وذاكم الإصرار، وكثرة التكرار، حول رأي يُفترض أن يُطرح مرة واحدة ليكون عاكساً لوجهة نظر صاحبه؟ ولماذا يحرصون على منهجة الردود على كل من يختلف معهم بردود مكررة، وشتائم مُستنسخة؟ وعلى هذه الأسئلة ينبني السؤال الأهم، ذو الإجابة الواضحة، وهو: هل آراء هؤلاء صادرة عن قناعات ذاتية، أم عن تبعيات فكرية؟
الإجابة واضحة؛ فهم مؤمنون بما يقوله رموزهم إيمانا «عميانيا» تقديسيا عميقا لا شك فيه، ولا تحليل، ولا اختلاف، ولا جمع معلومات، ولا محاولة تفكير، ومعنى ذلك أننا أمام صنف غريب من العقول، هو العقول «الداجنة» التي ليس لها من صفات العقل سوى اسمه، ولا تستطيع أن تستوعب أنّ لها دورا يتجاوز «الببغائية»، وتوكيل مفكرين بالنيابة.
أحتار على الدوام: كيف يرتضي إنسانٌ لنفسه أن يكون تابعاً يحسن إن أحسن أسياده، ويسيء إن أساؤوا؟! وهل بقي له من عقله شيء ما دام تفكيره لا يعدو أن يكون صدى لآراء وأقوال الآخرين؟
أصبحت أتسلى بهذه الظاهرة تسلية اكتشافية، أستكشف بها طرائق تفكيرهم إن وُجد، فإذا قرأتُ لأحدهم رأيا حادا شاذا متطرفا في موضوع ما، ووجدته يكرره، ويصر عليه في ردوده، ذهبتُ إلى حسابه، وبحثت عمّن «يرتْوت» لهم، ويقدسهم، ويرمّزهم، ويمتدح أقوالهم وأشخاصهم، ويشتم ناقديهم والمختلفين معهم، لأجدهم – دائما – بضعة عشر اسما، تتكرر في حسابات جلّ الحادّين والشتّامين والمنافحين ضد الاتجاهات البدهية للآراء المستقلة.
وجود هؤلاء التابعين المستنسخين خطر كبير؛ لأنهم أدوات يحرّكها آخرون بـ«الريموت كنترول»، فتغريدة واحدة من رأس كبيرة كفيلة بجعلهم «يدربون رؤوسهم» خلف فكرتها. ومن «دربى رأسه» خلف فكرةٍ دون تبصّر، سـ«يدربي» جسده وحياته خلف أي تحريضٍ دون تردّد.
لا ألوم محركي هؤلاء؛ فهم يعرفون ما يفعلونه بالعقول الفارغة ويقصدونه قصدا، ويدركون أن مصالحهم الفردية والجماعية، وأحلامهم السياسية الخفية تتطلب وجود «القطعان»، ولذا لا ألوم الزعماء، ولا أناقش أخلاقياتهم منذ ارتضوا «الضحك على عباد الله» لتحقيق أهدافهم، وإنما ألوم التابعين بغير إحسان. وما أكثرهم!!