قد لا تبدو مشكلة أكثر إلحاحاً على مجتمعنا السعودي في زمننا الراهن من الإطار الثقافي الذي يستوعب الوعي الاجتماعي، ويعيد صياغته بما يتناسب مع الطموح إلى المستقبل وإلى التغيير الذي تفرضه علينا اللحظة التاريخية، وتحتشد له الدولة في أعلى مستوياتها.

فمن دون هذا الإطار الثقافي، بصفته المذكورة، تفقد خيارات التحديث ووجهات التنظيم والتطوير تفسيرها في أذهان الناس، ويسهل تحريفها والوشاية بها، من قبل من يعادون التطور والتحديث، من حراس القديم الموجودين في كل المجتمعات.

ومن دون هذا الإطار الثقافي، يفتقد التحديث والتطوير معناهما الباني وتبريرهما، وما يستلزمان من طاقة الحماس لهما، والاستبشار بهما، والقناعة تجاههما. وإذا افتقدت وجهة المجتمع إلى المستقبل المعنى والتبرير فإنها لا تبقى فارغة من أي شيء، فكل فراغ -فيما تقرر الفيزياء- لا بد أن يُملأ بشيء، وهو شيء لن يخدم -عندئذ- الغاية التي تجاوز الفئويات والتيارات المتعاركة بحساباتها المختلفة إلى الكل الجامع، إلى الوطن كاملا.

وليس معنى ذلك أننا كنا من قبل من دون إطار ثقافي، فكل مجتمع لا بد أن يتأسس على وعي بذاته وهويته المائزة له، ولكن هذا الوعي لا بد أن يتكشف مع الحاجات التي تستجد مع الزمن، ومع نمو الوعي، عن نقص وعدم كفاءة، ويستحيل إلى عائق وعمى معرفي وحيرة، واصطراع للمفاهيم وتعارض في الوجهات.

ونحن الآن في هذه المرحلة التي نلمس فيها ذلك العمى والحيرة والاصطراع والجدل والتعارض، في مسائل عديدة ومختلفة: الحرية والقهر، الماضي والمستقبل، التحول والثبات، التغير والهوية... الخ. ولكنها جميعا تجتمع في صفتها الثقافية، من حيث ما تنطوي عليه الثقافة من دلالة الرصد للتحول والتطوير: التحول باتجاه مزيد من الصقل والتهذيب والمدنية.

فالثقافة تفقد معناها حين تستحيل إلى الطبيعي والجامد والمعطى، إنها اختلاق وصُنْع وتركيب ولا بد من تجدُّدها

بهذه الصفات لتكون ثقافة، أو بالأحرى لتقوم بدور الثقافة وفعلها الذي يدلِّل عليه معناها الأولي في ذاكرة المفاهيم: الصقل والتهذيب والرعاية والتنشئة والتقويم والحوكمة.

وإذا كانت الثقافة هكذا، لا تنحصر في العلاقة بفئة من المجتمع دون غيرها، ولا يتوقف مدلولها على ما يخص طبقة من طبقات المجتمع وحدها، لأنها المحيط الذي تتشكل فيه طبيعة المجتمع وغايته وخصائصه، فإن علاقتها بالدولة علاقة ضرورية وعلاقة مطلوبة، فلا يستطيع صياغة ثقافة المجتمع غير الدولة التي تحكمه، وهي أيضا علاقة متبادلة، تكون الدولة فيها كما هو المجتمع فاعلا للثقافة ومفعولا لها.

هكذا تُجاوز الثقافة -فيما نقصده هنا- الإيديولوجيا، لأن الأخيرة محددة بصيغة الاعتقاد في شأن الحفاظ على السلطة الاجتماعية وإعادة إنتاجها، وتُجاوز الدين والمذاهب والطوائف، مثلما تُجاوز أي مكونات مجتمعية مناطقية أو قبلية، وتُجاوز مدلول الثقافة بوصفها هوية، لأن الهوية الثقافية مفهوم في وجهة التميز والاختلاف عن المجتمعات الأخرى، ونحن بصدد التجدد والتمايز الثقافي في فترة تاريخية قياسا على أخرى ماضية.

مهمة الإطار الثقافي الذي تصنعه الدولة استيعاب التنوع والاختلاف، وامتصاص النزاع والصراع في وجهات النظر، وإفراغ التعصب -بأي معنى يكون- من قوته ومحتواه، والحيلولة دون نشأته من الأساس أو تفاقمه نحو تدمير النسيج الوطني. وهذا هو المؤدَّى الذي يتيح خيارات المستقبل من دون أن تستفرد بالممانعة لها وجهة، ويتيح اتساعا في تفسيرها ويفتح العقول لتقبلها.

ولا تقف هذه المهمة الثقافية للدولة عند ذلك، فالدولة معنية بإصلاح التشوهات الثقافية، وبثِّ نوازع روحية في مواطنيها تكفل لها الازدهار والقوة، وتحرر الذات المثالية والجمعية والأخلاقية الكامنة في الأفراد، لتجد هذه الذات تمثيلها العام في الدولة. وليس لأحد أن ينكر ما تنطوي عليه ثقافتنا من تشوهات تعرقل نهضة المجتمع وقدرته على الحركة، وليس لأحد غير الدولة من قدرة على تطويق هذه التشوهات ومعالجتها.

ازدراء العمل اليدوي -مثلا- واحتقار المهن الصناعية، دلالة على تشوه ثقافي. وهو تشوه لا يقل عن الرؤية غير السوية إلى الفنون وانحطاط الإحساس بقيمتها ووظيفتها إلى حد غير قليل في الذهنية العامة، بل إن أكثر ما تسيغه الثقافة العامة منها وما تهتم به، لا بد أن يتكيف مع خصائص تطبعه بالسطحية والتفاهة وترهنه للتقليدية والشعبوية والأدلجة.

وليست مكانة المرأة لدينا من اللياقة والسمو ومن الموثوقية والاحترام إلى الدرجة التي تقي ثقافتنا من التشوه الذي يغدو من هذه الوجهة تشوها ذكوريا، يحدُّ بتغوُّله وطغيانه من طاقة المرأة على العطاء والمشاركة في التنمية، ويُهدر بشكل أو بآخر قيمتها الوطنية والإنسانية.

وهي تشوهات ثقافتنا التي يمكن -أيضا- أن نلمسها في انحسار قيمة العلم بمعناه المادي، وتضاؤل اليقين في العقل، وشيوع الأفكار غير العقلانية واللجوء إليها، والشغف بالخوارق، وهيمنة التواكل، والفكر المتخلف عن مواكبة التطور، واختلاط التقاليد والأعراف بالدين، والتعصب المذهبي والقبلي، وجمود الفكر الديني، وانغلاق باب الاجتهاد الفقهي، وهيمنة الرؤية الأحادية، وإقصاء المختلف.

أما ما يجعل هذه التشوهات إشكالية وعصيَّة على الحلول، فيعود إلى ترابطها في الإحالة على الثقافة الاجتماعية، هذه الثقافة التي لم تنشأ بين عشية وضحاها، فهي حصيلة أزمان مديدة، ومخزونها في العادات والنصوص والخطابات وآليات إنتاج المعاني والرموز ومنظومات القيم يفوق أي قدرة على الإحاطة به. ولذلك يغدو أي إصلاح جذري لأجزائها، مستقلةً عن بعضها، ضرباً من العبث.

لابد -والحال هكذا- من تجديد الثقافة نفسها التي تندرج هذه التشوهات فيها، وذلك بما تملكه الدولة من مكانة، بوصفها مركز السلطة، الذي يجعلها تجسيدا لفكرة الحق والمشروعية، والقُدرة الوحيدة في الوجود الاجتماعي المؤهَّلة لضبط التنافس،وفي الوقت نفسه الدفع إلى الحركة والتقدم، في جدلية منضبطة ومتوازنة للحركة والنظام.

وللدولة أدواتها التي تصوغ بها الثقافة الاجتماعية وتُجدِّدها، وفي المقدمة منها سلطتها التشريعية والتنظيمية؛ فبالأنظمة والتشريعات يمكن تجريم العنصرية والطائفية والقبلية والمناطقية وكافة التحيزات الشوهاء. وإذا انطلق المجتمع من عقال هذه الأدواء، فإنه يقطع شوطا في سبيل امتلاكه ليقين الفردية والوعي بكوجيتو الذات.

وبالطبع فلا انفصال بين القضاء على التعصب ووعي الكائن بذاتيته وبين الاكتشاف للإنسانية المشتركة، وما يترتب عليها من حقوق تأبى التمييز ضد الآخر بقدر ما تأبى التمييز ضد الأنا. وذلك كله من حيث هو يقين في الذات وفي المعنى الإنساني قنطرةٌ إلى العقل الذي يتساوى الإدراك لقيمته وفاعليته ويترابط مع الإدراك للحرية الوجه الملازم للمسؤولية.

وهكذا تستطيع التشريعات والأنظمة أن تشجع القراءات المتجددة للتراث، وأن تفتح باب الاجتهاد الذي أغلقه الجمود.

لكن سلطة الدولة وقدرتها على إحداث التجديد الثقافي ليست مقتصرة على إحداث التشريعات والأنظمة العدلية، بل تمتد -بما يضيق المجال هنا عن تفصيله- إلى هيكلة كافة القطاعات وإصدار التشريعات والأنظمة المناسبة لها، كما تمتد إلى القدرة على التأثير عبر منصات الإعلام والتعليم والمؤسسات الثقافية، وإلى القدرة على إحداث مناخ جدي لاستنهاض طاقات الإبداع والفكر والفنون وتشجيعها والإفساح لها.