ودارت الأيام.. ومرت الأيام

وهلّ الفجر بعد الهجر…

وأي هجر هذا الذي كان قوامه أربعة عقود! ليأتي فجر 3 أكتوبر 2017 «بنوره الوردي يصبّح»، ويصحو الفرح في وجدان السعوديين بعودة كوكب الشرق على الشاشة السعودية الرسمية المتمثلة في القناة الثقافية.

هل هي بوادر الصحوة من تبعات الصحوة؟ أم هي إيذان بموت التشدد بعد أن أشعل نار التطرف وسعير الإرهاب؟

هل كان فجر الثلاثاء المنصرم 13 محرم 1439 هو اليوم الحقيقي لوفاة جهيمان؟ ذلك الداعشي الأول الذي اغتال حرمة الحرم في نفس يوم الثلاثاء، ونفس شهرنا المحرم من عام 1400، والذي على أثره بدأت موجة التشدد، فقتلت الفنون، واضطهدت كل ما هو جميل في حياة المجتمع السعودي البسيط المسالم الذي لم يكن ليعرف التشدد ولا ماهية التطرف. المد الصحوي أعاد المجتمع الصحراوي إلى التصحر بعد أن خطى خطوات مشرقة نحو التنمية وتجليات النهضة ونتاجها الحضاري.

تجلت معالم نهضة المملكة العربية السعودية عند تنفيذ أول خططها الخمسية 1970/‏1975 -قُبيل جريمة جهيمان-. أثمرت تلك المعالم النهضوية عن إنجازات في مجالات عديدة كالتعليم، التي شهد افتتاح عدد هائل من مدارس البنين والبنات، أعقبها إنشاء أول وزارة للتعليم العالي وافتُتح، حينذاك، 3 جامعات، لتستكمل سبعة صروح جامعية. وفي هذا السياق التأريخي، تأسس أعظم مشروعين صناعيين في الوطن، وربما في الشرق الأوسط، أحدهما تشييد عملاق الصناعات الأساسية «سابك» والآخر، الهيئة الملكية للجبيل وينبع.

تلك القفزات الحضارية الهائلة، كانت محل ريبة وتوجس عند العقليات المتخلفة، المؤدلجة فكريا، والتي رأت في صور التطور والتنمية عداء يهدد كيانها، ويباعد من نفوذها على السلطة والمجتمع إلى حيث أحضان الحضارة الغربية. رافق تلك المرحلة، إبرام معاهدة كامب ديفيد، الذي بدا للبعض أنه فاتحة الاعتراف العربي الرسمي، وانتهاء عهد الحروب مع الكيان الصهيوني، وربما الاعتراف بوجوده الطبيعي. وفي البوابة الشرقية، هناك انتصار الثورة الإسلامية في إيران الذي ولّد لدى التيارات الإسلامية الأخرى تصور إمكانية تكرار ما فعله الخميني في إيران. كل تلك الأمور مجتمعة، دعتهم إلى مواجهة الدولة السعودية لقلب نظام الحكم عبر عقيدة المسلمين من خلال ادعاء المهدي المنتظر في بلد الله الحرام وشهره الحرام، الأمر الذي تسبب في تعطيل قبلة المسلمين 16 يوما!.


استشرت موجة التزمت الديني، وأودت بالخطاب الوسطي السائد حينذاك، ولم نعد نسمع سوى: حرام، لا يجوز، مكروه، كفر، زندقة، نفاق، حتى وكأنك تشهد تواري واندثار مفردات «مباح، جائز وفي المسألة قولان! لدرجة أن صغائر الذنوب تمت ترقيتها إلى درجة الكبائر، والكبائر صعدت إلى سلم الموبقات، ومن ذلك الموسيقى والغناء وبقية الفنون، وعليه فقد توقف بثها وبث الأفلام على الشاشة السعودية، فضلا عما صاحب تلك الحقبة من دعم رسمي للجهاد الأفغاني وإرسال طلائع مختلفة من المتطوعين السعوديين إلى بيشاور نصرة لإخوان الدين الأفغان ضد الشيوعية السوفيتية، الأمر الذي أضاف بُعداً آخر لتوقف بث الفنون بكل أنواعها.

لقد نتج عن هذا الطلاق الأليم بين القناة الوحيدة، آنذاك، وبين جمهورها، عزوف كبير عن الفن الأصيل، واستبداله بالفن الهابط بعد أن نشأ جيل على مشاهدة وسماع الفن الراقي من البث السعودي الإذاعي والمرئي، على حد سواء، حين كانت المسامع تستمخ لأصوات طربية عالية المزاج كسيدة الغناء أم كلثوم، ومعزوفات فريد الأطرش وسيد درويش وقيثارة الدنيا فيروز، وصوت الأرض طلال مداح، والعندليب عبدالحليم حافظ، ووردة الجزائرية، ونجاة الصغيرة، وفنان العرب محمد عبده، والصوت الجريح عبدالكريم عبدالقادر، وعزيزة جلال، وميادة الحناوي.

لقد أحدث توقف الفن الأصيل عن البث السعودي، فراغا هائلا تولّد عنه الفن الخادش للسمع والذوق، صاحبه ظهور الأناشيد الحماسية والثورية التي خدمت التصلب الفكري والتوجه التكفيري، ثم تدرجت إلى أن وصلت إلى استحداث فن الشيلات وما فيها من خواء فكري واجتماعي وثقافي، زادت من تأجيج العنصرية والفوقية والتفرقة بين جماعات وقبائل المجتمع الواحد لتلغي معالم الوحدة الوطنية.

واليوم نحن نسدل زمن التطرف الصحوي إلى حيث الاعتدال والوسطية مجددا، وفي هذا تشدو أم كلثوم عبر القناة السعودية من كلمات الأمير الشاعر المحروم عبدالله الفيصل:

لا تقل أين ليالينا وقد كانت عِذابا

لا تسلني عن أمانينا وقد كانت سرابا

إنني أسدلت فوق الأمس ستراً وحجابا...