في كثير من الأحيان نجد نزوعاً عند الناس لرفض المختلف أو الأفكار التي يمكن أن تكون مختلفة عن الإطار العام، هذا الاختلاف هو أشبه بنزع تلك النمطية التي يعيشها بعضهم لتغدو دعوات الاختلاف غريبة في إطارها؛ ذلك الإطار الذي غالبا ما كان يركن إلى نوع من التنميط الفكري والمجتمعي.

كل المجتمعات والأفكار والثقافات والفلسفات عادة ما تذهب إلى دعم فكرة المختلف أكثر من ذهابها إلى التنميط، والجنوح نحو الاختلاف ليس واضحاً بشكل صريح بقدر ما يأتي هكذا طبيعياً في نقد أفكار الآخرين أو ثقافاتهم، والبحث عما هو مختلف عنهم في الثقافة الخاصة، ولو نظرنا إلى الثقافة السعودية التي ربما كانت أقرب إلى الواحدية في نظرتها إلى الأمور إلا أنها ثقافة تحمل في طياتها كثيرا من التعددية، وتبدو المفارقة كبيرة في هذا المجال في تباعد المجتمع وإن كانت الصورة العامة صورة نمطية عن الثقافة السعودية، ولعل عددا من المثقفين _ خاصة جيل ما بعد الرواد، أي الجيل الذي كرس مفهوم ثقافة الصحراء على غيرها من الثقافات _ من سعى إلى جعلها بهذا التنميط تحقيقاً لمفهوم الواحدية الثقافية، وفي رأيي أننا لو دققنا النظر قليلا لصعب علينا توصيف المجتمع السعودي بحالة واحدة حتى وإن كانت هذه الحالة ذات فاعلية كبيرة في تشكيل المجتمع، سواء سميناها تقليدية، أو محافظة، أو غيرهما، خصوصاً مع غياب الدراسات المعمقة عن حالة المجتمع السعودي، من حيث ثنائية المحافظة ذات الهوية الواحدة والاختلاف المتعدد، فالتحولات الفكرية كانت، ولا تزال، تشكل بنية هذا المجتمع وتسوقه نحو سياقات مختلفة، بعضها يسير في خط حداثي صاعد، والآخر يسير في ارتداد ماضوي، وما بين هذا التقدم والتأخر تتشكل غالبية المجتمعات العربية، وليس المجتمع السعودي فقط، إلا في اختلاف النسبة بين ذلك التقدم أو ذلك الارتداد.

الثقافة السعودية على الرغم من أن لها هويتها المركبة: الهوية الدينية (الإسلام) والهوية السياسية (السعودية)، إلا أنها ـ في رأيي ـ تحمل في داخلها عدداً من الهويات الصغرى التي لها فاعليتها في تشكيل هويتها الأكبر. الهويات الصغرى عادة ما تذهب إلى تأكيد ذاتها في أشكال عديدة خاصة في المسرود والمحكي، فالسرد هو أكثر الأشكال الثقافية تبليغاً لذهنية الاختلاف، وهو الأكثر فاعلية في تأكيد الهويات الصغرى، لكن تبرز مظاهر التنميط في الثقافة في العديد من الأشكال والمواقف والآراء، حيث الشكل الواحد والبيت الواحد، أو تبني فكر واحد هو السائد، وهو الأكثر حيث يتم رفض الفكر المختلف الذي يظهر نفسه كدخيل. كثيرا ما ردد بعض المسؤولين أو المشايخ أو الإعلاميين والمثقفين أن تلك الفكرة أو ذلك المسمى من التيارات دخيل على مجتمعنا على الرغم من أن حالة التأثير والتأثر في المجتمعات كلها أمر مشهود وطبيعي.

حالة التنميط الثقافي تحاول أن تفرض على الثقافة ما ليس في أصلها وهو التعدد، لذلك سوف تكون هناك صعوبة شديدة في خلق حالة نمطية واحدة للثقافة، حتى وإن رأى البعض ذلك، لأن التعدد كان ولا يزال مبرزاً نفسه كتمثيل لتلك الهويات الصغيرة؛ خاصة بعد تقنيات التواصل الحديثة التي فتحت المجال لبروز ذلك الاختلاف الثقافي بشكل أظهر من ذي قبل، مهما كانت عمليات التنميط من خلال «المركزية المحلية» لدى بعض مدن المركز، إذا ما أردنا مقابلتها مع مفهوم «المركزية الغربية» التي ظهرت في كتابات بعض نقاد الحداثة في الغرب.

يبقى التواصل بين هذه الهويات المتعددة في السعودية، أو لنقل الثقافات المختلفة، مرهوناً بالفاعلية الثقافية والمؤسساتية داخل ما أسماه هابرماس في نظريته التواصلية «المجال العام»، حيث الجميع مشاركون بما هو الصالح العام، وليس الصالح الخاص؛ حيث يبقى الخاص خاصاً والعام عاماً. لكن يتوجب علينا تحديد المجال العام من المجال الخاص من خلال عملية حوارية نقدية شاملة لا تقف عند حدود الثقافات الخاصة؛ بل تعيد مساءلتها مساءلة عميقة من خلال فضاء مفتوح على كافة الأفكار والتيارات الدينية والليبرالية وغيرها، بحيث يمكن للعام والخاص في إطاره التداولي أن يتشكل.

صحيح أنه لا يوجد حتى الآن مثل هذا الفضاء إلا في بعض المؤسسات الرسمية في السعودية التي يمكن أن تتحقق من خلالها ثنائية الاختلاف والتواصل، إلا أن تأثيرها محدود كونها لا تصل إلى كافة أطراف المجتمع كمعايشة يومية عادية وطبيعية، ويمكن أن توجد بدائل ثقافية عديدة يجترحها المجتمع أكثر فاعلية كمؤسسات المجتمع المدني أو غيرها. وبرأيي فإن مفهوم «المواطنة» يمكن أن يكون هو المشترك الفكري والوطني الأبرز في تحقيق تعددية المجتمع وتواصله.