أحد أرسخ مبادئ التيار المحافظ هو الحفاظ على العفة بين الجنسين من الزنا أو الشذوذ مع حماية الدين والتدين من الإهمال، ومنع الخمور ومظاهر الرقص المختلط خاصة، وتحريم الموسيقى بصفتها معازف الشيطان، والحفاظ على الملبس التقليدي للذكر والأنثى، والذي تعد فيه عباءة المرأة إحدى قدسياته، ولهذه العباءة شروط تتفاوت من جماعة إلى أخرى، وقد تشمل تغطية الوجه كاملا.

تتفاوت هذه المظاهر من جماعة إلى أخرى، وتصل أحيانا إلى مستوى كبير من التشدد، تشمل التحريم القبلي لرؤية الرجل لزوجته، واعتبار المرأة العاملة فاقدة للعفة، وغيرها من مظاهر متشددة لم يكن دافعها دينيا دائما، ولم ترتبط حتى بالعرب والسعوديين وحدهم، حيث إن ثقافة العفة وحتى منع الموسيقى نجدها لدى العديد من الجماعات اليهودية وغيرها.

بشكل عام كان هناك تنوع كبير في الجزيرة العربية وقبل ظهور الحراك الإسلاموي الجديد من نوعه، فقد كانت هناك جماعات ترقص فيها النساء مع الرجال، وكان الضيف يتناول طعامه على سفرة يجلس فيها رب المنزل وزوجه وبناته.

كان لظهور مستويات أعلى في الاختلاط في الجزيرة العربية بين النساء والرجال أسباب اقتصادية واجتماعية، فقد كان بناء البيوت الصغيرة وطبيعة العمل الجماعي يجبر العائلة الممتدة على التقارب والتعامل مع ذلك بشكل اعتيادي، ولم يكن ذلك جهلا كما يروج له، فحتى ثقافة العزل التام كانت منتشرة بين بعض الفئات، وقد ساعدنا النفط كثيرا على إحداث حالة عزل تام بين الجنسين، وذلك من خلال الاعتماد على اقتصاد نفطي يقوم على بيع المنتجات النفطية من المحطات التي يقوم بتشغيلها قوى عاملة لا تمثل نسبة تذكر من إجمالي التعداد السكاني.

يصل تشدد التيار المحافظ إلى مرحلة يتشدد فيها لدين شكلي يحدث له أزمة انفصام في الأخلاق، فهو متمسك فكريا بعاداته القاسية، ولكن رغباته وسلوكه متعلق بالدنيا وشهواتها ولذاتها كما هي الطبيعة البشرية، وهو ما أنتج الظاهرة الشهيرة لجماعة «أحب الصالحين ولست منهم»، والتي قد تصل لمرحلة يصبح فيها الصالح مجرد رمز لا وجود له على أرض الواقع بين تلك الجماعة بسبب شدة تناقضها.

يظل التيار المحافظ ضرورة اجتماعية تساعد على حماية الأسرة، وتحافظ على قيم العفة، وترسخ المبادئ الدينية والأخلاقية، وتجمع الناس على القيم المشتركة، والاعتزاز بالهوية التي تمثل رمزها الوجودي، وغيرها من أسس أخلاقية لا تستغني عنها كافة المجتمعات البشرية المستقرة، من كل الثقافات والديانات حتى في المجتمع الأميركي، ولكن بمستويات ومعطيات متباينة، كما يظل التيار الحداثي الذي يطلق البعض عليه سعوديا بالتيار الليبرالي ضرورة حتمية أيضا لأي إصلاح أو تطور وتقدم، خاصة لكونه يمثل نخب المجتمع العلمية والإبداعية أو «التكنوقراط» الذي يمثل الكفاءات كما هو في أي مجتمع، ولكن الحديث هو للإشارة عن أزمة فئات محافظة أكثر انغلاقا مع النموذج الاقتصادي العالمي الجديد.

تنويع الإنتاج والرغبة في مواجهة تحديات العطالة والإسكان والتعليم وحل المشكلات الاجتماعية وأزمة تأخر الزواج والعنوسة، وغيرها من تحديات ومشكلات، كلها تتطلب التضحية ببعض مظاهر النموذج الاجتماعي التقليدي الذي نعيشه، حتى لو كان ذلك قاسيا وأليماً، فإما أن نبادر بقبول قوانين التغيير، وإما التسليم للتغيرات التي تسحق الغافلين والهاملين والمعاندين. فمنح المرأة حق قيادة السيارة على سبيل المثال سوف يساعد على حل أزمة البطالة، خاصة لدى الإناث، وسوف يحمي الدولة والعائلة على حد سواء من الهدر المالي والمخاطر الاجتماعية.

لا يوجد مجتمع له خصوصية، هناك مجتمعات لا تتبع النماذج العالمية أو لا تجيد أن تصنع لها نموذجا ناجحا، فالنموذج الاقتصادي العالمي الجديد هو نفسه الموجود في كوريا الجنوبية وأميركا والإمارات.

عندما سألت الإعلامية الغربية أحد المسؤولين الإماراتيين عن أزمة انتشار الخمر في الإمارات باعتباره بلدا محافظا كان جوابه أنها ثمن للنموذج الذي صنعتموه أنتم عالميا، فهو النموذج الذي استقطب الشركات العالمية التي تركت السعودية وذهبت إلى الإمارات رغم أن أكبر أسواقها في السعودية، وهو مما يسهم في خسارة فرص عمل وعوائد اقتصادية ضخمة.

الحزب الشيوعي الذي كان يحكم الصين كان يمتلك مشروعا اقتصاديا منذ بداياته، ورغم شيوعيته وتصديه لأميركا بصفتها عدو الشيوعية العالمي الأكبر، إلا أن رغبة الصين في النجاح الاقتصادي فرضت عليه أن يستسلم لأغلب أشكال الرأسمالية، وأن ينفتح ما أمكن له على أميركا والعالم الرأسمالي.

في الحالة السعودية فهناك العديد من الحلول، ولكن الحاجة لتنويع الإنتاج تتطلب بعض التضحيات لتحقيق المصلحة العامة، والمجتمعات المحافظة ستظل محافظة بشكل عام حتى من خلال النماذج الاقتصادية التي تقدم مدنا مفتوحة، وهو ما نلحظه بكل وضوح على المقيمين المسلمين مثلا في دول الغرب وحتى في الإمارات الشقيقة التي يعد شعبها أحد أكثر الشعوب محافظة على قيمه الأساسية.

إغلاق منافذ الحياة على المجتمع بسبب الخشية من فئة قليلة كان أحد الشعارات التي تبنتها التيارات التي لا تجيد إلا تقديم نماذج التخريب والبكاء على المؤامرة الكونية والإرجاء إلى زمن الانتقام، وهي العاجزة طوال تاريخها عن تقديم أي نموذج صالح للحياة البشرية، فليس هناك نموذج آخر مناسب لمجتمع تقليدي مغلق إلا بيع براميل النفط الذي يتراجع في كل يوم، فحتى التنمية الشاملة التي اتجهت لها السعودية بدورها سببت حالة صراع مع الحداثة، وكان الاستمرار في تلك التنمية هو أحد أسباب زيادة قابليات المجتمع السعودي للانفتاح على النموذج الاقتصادي الضروري الجديد.