لم يكن الأمر السامي الذي أعلن يوم الثلاثاء الـ 26 من سبتمبر الماضي الذي أمر فيه الملك سلمان بإصدار رخص القيادة للمرأة السعودية مجرد أمر انتظره الكثير من الشعب السعودي، وخاصة النساء، منذ سنوات ليحل مشكلة التنقل التي يحتاجها كثير من السيدات، بل يعد انطلاقا لوجه سعودي جديد ولبنة في دولة مدنية متقدمة واثقة من شق طريقها بين دول العالم بثبات وقوة. يتجلى هذا في عدة نقاط ستؤسس لمراحل اجتماعية وتنموية وحضارية مختلفة في الوطن، وسآتي على ذكر بعضها تباعًا.

اللافت في نص الأمر السامي ما احتوته العبارة التالية: «اعتمدوا تطبيق أحكام نظام المرور ولائحته التنفيذية –بما فيها إصدار رخص القيادة- على الذكور والإناث على حد سواء». استخدام كلمة «على السواء» يلغي أي تمايز بين ما يقدم للرجل من خدمات حكومية في نظام المرور وبين ما سيقدم للمرأة لاحقا، وهذه المساواة ستنسحب بلا شك مع مرور الأيام على جميع الخدمات الحكومية الأخرى التي لا تستطيع المرأة إنجازها أو الحصول عليها لأجل التفرقة بينها وبين الرجل لأي اعتبارات كانت. نذكر على سبيل المثال أن المادة السادسة والثلاثين في اللائحة التنفيذية لنظام المرور تنص على إتمام سن الثامنة عشرة للحصول على رخصة القيادة الخاصة؛ وهذه هي السن القانونية المعتبرة لكثير من التعاملات الحكومية والاجتماعية في كل دول العالم، ويعتبر الشخص عند هذا العمر قد وصل إلى السن القانونية التي يتبعها ما يترتب عليها من تعاملات مختلفة، وتحمل للمسؤولية، والحصول على الحقوق المدنية، وتأدية الواجبات والالتزامات المشروعة.

 عند المساواة بين الذكر والأنثى كما نص الأمر السامي في هذه اللائحة فإن مساحة المسؤولية المدنية والاجتماعية ستشمل الجنسين، وكذلك الحصول على الحقوق المدنية ستشملهما معا، وتكون القوانين في جميع لوائح الأنظمة الحكومية، كالتعليم والإسكان والجوازات والشرطة وغيرها، موجهة للذكر والأنثى على حد سواء دون استثناء يعيق حصول المرأة على حقوقها أو متابعة احتياجاتها في الإدارات الحكومية. ستستطيع استخراج جواز السفر والسفر بشكل مستقل، وتسقط عنها الاشتراطات التي ترافق متطلبات الحصول على سكن، وستتمكن من إكمال التعليم والابتعاث والحصول على وظائف دون الارتباط بموافقة شخص آخر، وتحصل على ذات العلاوات والدرجات الوظيفية التي يحصل عليها الموظف الرجل وغيرها؛ لأن الأنظمة ستعاملها وفق القياس على هذا الأمر كمواطن كامل الأهلية بصفة قانونية تحصل فيها على ما يحصل عليه من حقوق، وتؤدي ما عليها من واجبات، وتتحمل العقوبات التابعة لأي مخالفات.

من ناحية أخرى كانت قضية قيادة المرأة للسيارة محل جدل كبير في المجتمع، وكان تحريمها شرعًا هو المبرر الذي يستند عليه المنع باعتبارات تتعلق «بسد الذرائع»، كما ذكر أيضا في الأمر السامي الذي مع صدوره أصبح كل من كان يحرم قيادة السيارة محللا لها ومباركًا ومبررا لفضائل هذا القرار. سنوات طويلة من المزايدة على هذا الحق ووصم كل من طالب به بالرذيلة والبحث عن الفتن والتغريب ومحاولة سلخ المجتمع من قيمه الدينية تلاشى بمفارقات صادمة لحجم التناقض الذي ظهر. إن تغير قناعات الإنسان وآرائه للأفضل بلا شك ميزة وتصرف إيجابي يحمد عليه صاحبه ما لم يزايد من قبل أو بعد على الآخرين وقناعاتهم وعلى مرونة الفقه الإسلامي واتساعه لكل زمان ومكان ولجميع الفئات التي تؤمن بالإسلام. لقد طال التحريم والمنع جوانب كثيرة في حياتنا، وكان نصيب المرأة هو الأوفر منها، فحرم كشف الوجه واختلاف لبس الحجاب، وحُرِمت من وظائف مختلفة بحجة الاختلاط وسد باب الذرائع على حساب مستقبلها الاجتماعي والمهني. وكانت تقف دائما على حافة الاحتياج للآخر حتى وإن كان هذا الآخر سائقا من بلد غريب يتحكم في وقتها ويتدخل في خصوصياتها ويضطرها لتحمل ما لا يحتمل فقط لأنها امرأة. هذا التغير في اتجاه الفتاوى وقابلية أن يصبح المحرّم مباحا في يوم ما سيغير في وعي المجتمع خاصة الجيل الشاب منه، ويعلم أن لا ثابت في هذه الحياة، وسيزيد من استعداده لتقبل وجهات نظر الآخرين وخياراتهم في الحياة وإن لم تتفق مع توجهاته وآرائه. هذا الوعي سينعكس أيضا على النساء بشكل خاص وعلى مستوى ثقتهن بأنفسهن ومقدرتهن على المشاركة الفاعلة في الحياة العامة والعمل الوظيفي والإبداعي. شعور المرأة بالنقص الذي جعل الكثير منهن يقتنعن بإيمان مطلق عززته التربية والمجتمع والفتاوى المجحفة فيها وفي الرجل أنهن عار قائم وفتنة محتملة وعقل ناقص ومقدرة منقوصة لأجل جنسها البشري كأنثى سيخف حتى التلاشي ويتعافى المجتمع من هذا التفكير السلبي تجاه المرأة.

ومن أهم المزايا الإيجابية التي ستتحقق مع قيادة المرأة للسيارة ما يتعلق بالجانب الاقتصادي للأسر السعودية، فالأموال التي كانت تصرف على راتب وإيواء السائق، والمخالفات والإصلاحات التي كانت تتحملها الموظفة، وكلفة الاستقدام أو نقل الكفالة أو دفع قيمة المشاوير التي تفوق الكلفة البسيطة لإحضار احتياج بسيط من بقالة الحي، سيتم توفيرها للأسرة ولاحتياجاتها. ومن جانب آخر ستتيح قيادة المرأة للسيارة عددا كبيرا من الفرص الوظيفية للمرأة في مواقع وأعمال لم تسبق لها المشاركة فيها مسبقا، وغالبيتها لا تحتاج إلى الحصول على شهادات جامعية متخصصة، فيخف بالتالي الضغط على القبول في الجامعات التي تخرج عددا كبيرا من الطالبات سنويا يقفن في طابور البطالة بانتظار فرص وظيفية تنحصر غالبا في مجالات محدودة، كما ستحل المرأة مكان العامل الأجنبي في كثير من المواقع، ويستثمر عملها في تحقيق التنمية الاقتصادية داخليا، فتستفيد بشكل شخصي وينتفع الوطن بمشاركتها.

لقد قامت رؤية 2030 على ثلاثة محاور رئيسية: وطن طموح، مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، وقيادة المرأة للسيارة التي أقرت أخيرا ستسهم بشكل واضح في هذه المحاور ببناء الوطن ووعي المجتمع ورفع الاقتصاد بأيدي بناته جنبا إلى جنب مع أبنائه وقيادته التي تصنع التاريخ بقراراتها الحكيمة.