كان حدثا مهما فعلا ذلك الذي أعلنت عنه القناة الثقافية السعودية الإثنين الماضي، والمتمثل في بثها الحفلات الفنية الغنائية لعمالقة الفن العربي، وأهم ما حملته العودة بعد ما يقارب الأربعين عاما هو عدم النظر إلى جنس الفنان ذكرا كان أم أنثى، وهو ما كانت تبثه القناة السعودية الأولى على أيام بهجتنا الأولى بها.

ما زلت أتذكر حتى اللحظة تلك المقاطع الموسيقية الرائعة لعمالقة الملحنين مثل رياض السنباطي ومحمد الموجي وبليغ حمدي، وصدحت بها حناجر الفنانين العرب الكبار من أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ووردة الجزائرية وسميرة سعيد، وأغنيات سميرة توفيق وفهد بلان وسعاد محمد وياسمين الخيام وغيرهم، والتي كانت تصاحب عرض برامج اليوم التالي في القناة السعودية دائما، وقد شكل لي ذلك الإعلان وتلك العودة مفاجأة طالما انتظرتها كثيرا على الرغم من توفر تلك المواد الفنية على قنوات كثيرة وعلى مواقع اليوتيوب وغيرها، لكن مذاقها التاريخي الذي عاد بي إلى مرحلة ما قبل ما يسمى بـ(الصحوة) التي جاءت بإقصاء البهجة إلا من منظورها وبوابتها الضيقة، لم يغادر ذاكرتي، ولأن هذه العودة.. كانت بين جيلين.

لقد كانت لحظة تاريخية فارقة، أعادت طعم أيام ماضية فاخرة صنعت ذائقتنا وألهمت فينا روح الإنسان الفنان الخالي من الحسابات والمشاريع الإيديولوجية، مع عدد كبير من مجايلي ذات عمر، ولكنها على جانب آخر لم تكن بذات الأهمية لدى عدد أكبر من جيل الشباب اليافع الذي يشكل النسبة الأكبر من تعداد السكان في المملكة حاليا - بحسب الإحصاءات التي تنشرها الهيئة العامة للإحصاء على موقعها سنويا - وهم الذين فتحوا أعينهم وأرواحهم على نماذج قوالب صنعها الفكر الصحوي في معظم تفاصيله، وظنوا أن هذا هو الواقع وهذا هو كل شيء.!

لذلك تماهوا مع ما كان مطروحا أمامهم وشكلوا من خلاله ذاكرتهم ووعيهم وتكوين شخصياتهم، فجاءت ردة فعلهم على ذلك الإعلان باردة مستغربة من احتفاء الجيل الذي يسبقهم به، وقللوا من أهمية ذلك.

أتفهم تعليقات واستغراب من ولدوا بعد حادثة الحرم المكي من قبل مجموعة ضالة انتهت بالقبض على جهيمان وإعدامه. أتفهم جيدا موقف هؤلاء الشباب المتسائلين عن أهمية تلك الخطوة والإعلان (الذي قللوا من أهميته وقيمته)، على الرغم من أنهم يتبادلون وينشرون في حساباتهم بعض المقاطع القديمة من التلفزيون السعودي لتلك المواد الفنية، تحت تعليقات (زمان يا فن، وزمان يا تلفزيون)، لكنني أستغرب كثيرا من سلبية تعليقات ومواقف أولئك الذين كتبوا روايات وألفوا كتبا في نقد ما يسمى بالصحوة التي تلت ذلك الحدث، وتسببت في إيقاف كثير من المباهج الحياتية في المجتمع، وعلى رأسها ما كان يبثه التلفزيون من فنون متنوعة!! فقد كان غالبية أولئك المؤلفين إن لم يكونوا جميعهم في نقطة الحدث، وعانوا من ذلك التحول الذي عشت تفاصيله، ورووا هم أنفسهم في مؤلفاتهم ما عانوه وعايشوه من تفاصيل إيديولوجيتها، فهل كان ذلك وهما أم ارتباكا أم عدم صدق مع ما كتبوا عنه؟!

ليست مشكلة أن يختلف ميولنا إلى الأشياء، فهذه من أبسط البداهات في عملية التفكير والملاحظة، لكن الملاحظ أن كثيرا من المعرفات الساخطة على إعلان عودة بث القناة للحفلات الفنية لم تكن بريئة أو تلقائية في ردودها، التي استخدمت أسلوب السخرية البذيئة في كثير منها وبعضها الآخر غلبته الأنا فركز على التصيد، وهو ما يعني أن هناك بقايا تحاول أن تقول ما زلنا هنا!! لكن الواقع اليوم عمليا يقول لقد ذهبتم مع الريح.