أصدرت الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء بياناً حول السماح بقيادة المرأة للسيارة، تقول فيه ما نصه «إن علماء الشريعة كافة قرروا أن تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة. وعلى ذلك يكون الغرض من تصرفات ولي الأمر الاجتهادية: تحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.. إن فتاوى العلماء كافة؛ فيما يتعلق بقيادة المرأة للمركبة انصبت على المصالح والمفاسد، ولم تتعرض للقيادة ذاتها التي لا يحرمها أحدٌ لذات القيادة؛ ومن ثَمَّ فإن ولي الأمر عليه أن ينظر في المصالح والمفاسد في هذا الموضوع، بحكم ولايته العامة».

يعتبر البيان السابق لهيئة كبار العلماء نقلة نوعية كبيرة لكسر الأطر والقوالب الفكرية الجامدة، وأساساً مهماً في عملية عقلنة الأحكام الفقهية التقليدية، ومنحها قدرة على مواجهة العقبات القانونية التي تفرضها حالة عدم التوافق بين مستلزمات الفقه القديم ومتطلبات الواقع الحديث، وليس هذا وحسب، بل إن هذا البيان أقرب ما يكون إلى الواقع العملي من أجل تجديد الفقه والخطاب الديني، بحيث يستوعب جميع متطلبات المجتمع المعاصر، بالإضافة إلى حفظ الشريعة الإسلامية من الجمود على عتبة الفتاوى الفقهية التي تتعامل مع الواقع بلغة وأدوات عفا عليها الزمن، وبالتالي التحول إلى المجتمع المدني الحديث.

في الماضي، كنّا نسمع من الفقهاء المسلمين قاعدة فقهية مهمة، وهي «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وعليه تكون الأحكام والفتاوى تابعة للمصالح والمفاسد (الإيجابيات والسلبيات)، وهذه القاعدة للأسف استخدمها بعض الدعاة ورجال الدين في منع المرأة من قيادة السيارة من خلال تضخيم سلبيات القيادة، والوصول إلى نتيجة قطعية ونهائية وهي المنع، وإغلاق الموضوع من أساسه من باب «سد الذرائع»، وبالتالي الحد من نشاط المرأة التنموي والمشاركة في المجتمع.

كان بعض الدعاة ورجال الدين يتخوفون مما قد ينتج عن قيادة المرأة للسيارة من آثار تؤدي إلى زحزحتها عن موقعها في البناء الاجتماعي والقيم التي اعتاد عليها الناس، إضافة إلى التصور الذهني للمرأة، والمتمثل في أنها باب الغواية ووسيلة الشيطان، وبالتالي فإن فكرة قيادتها للسيارة تفتح بابا واسعا للشر وخروجها من البيت، عندها سوف تقع في الفتنة والرذيلة لا محالة، وعلى هذا الأساس فإن أية فكرة جديدة أو تطور وتغير اجتماعي يتعلق بالمرأة، يخشاه بعض الفقهاء ورجال الدين، بنفس المنطق والمنهج القديم الذي يعتمد على تضخيم السلبيات، وإثارة المخاوف التي قد تصاحب هذا التغيير.

لا شك أن أية ظاهرة أو تغيرات في المجتمع لا تخلو من إيجابيات وسلبيات، ومنها قيادة المرأة للسيارة، والسؤال المطروح هنا: كيف نستطيع قياس هذه السلبيات والإيجابيات من دون تجربة حقيقية على أرض الواقع؟ حتى وإن افترضنا أن هناك سلبيات محتملة أليس من المجدي العمل على تقليل هذه السلبيات من خلال سن الأنظمة والقوانين وتنفيذ المشاريع؟ وأخيراً من هي الجهات المختصة المسؤولة عن ذلك؟ والمرأة إنسان كالرجل لها الحق في أن تقود السيارة كما يقود، وتتعلم كما يتعلم، وتعيش كما يعيش. والتحدي الحقيقي هو العمل على زيادة الإيجابيات والتقليل من السلبيات، وهذا هو المعنى الحقيقي في رأيي لقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح».

فعلى سبيل المثال كان يخشى بعض الدعاة ورجال الدين، تحرّش الرجال بالنساء عند قيادتهن للسيارة، وهذا الأمر بالفعل قد يكون من السلبيات المحتملة، وقد صدرت توجيهات عليا إلى وزارة الداخلية بإعداد مشروع نظام يجرم التحرش، ويحدد العقوبات اللازمة التي تمنع بشكل قاطع مثل هذه الأفعال، وتردع كل من تسوّل له نفسه الإقدام عليها، بما يسهم في تعزيز التمسك بقيم الدين ويضمن الحفاظ على الآداب العامة، وبذلك قللت الحكومة من مخاطر تلك المفاسد التي يمكن أن تصاحب قيادة المرأة للسيارة، وعليه حققت الحكومة النفع للناس ودافعت عنهم وعن حقوقهم ومصالحهم.

 لقد جسّد بيان هيئة كبار العلماء حول قيادة المرأة للسيارة المفهوم الصحيح للقاعدة الفقهية بأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، بالإضافة إلى أن ما يتعلق بالتشريع والتقنين ينبغي أن يتطابق مع مصلحة المجتمع، كما أن النظر في المصالح والمفاسد هو من اختصاصات ولي الأمر، وهذا النظر يعتمد على أجهزة ومؤسسات الدولة بكافة أشكالها ومسؤولياتها.