(1)

ثمة من يمنحهم الله فرصة ريادة العمل الثقافي والتأسيس الحضاري في بلدانهم، ليكونوا رموزا مضيئة في تاريخ الأمم والجماعات، وهؤلاء يكتسبون في البلدان المتحضرة قيمة عليا، فتشرع لهم الميادين، وتصنع لهم التماثيل، وتحفر أسماؤهم بمداد من ذهب على جدران المؤسسات العلمية والثقافية.

 (2)

في بلادنا ثمة كوكبة من رواد المنجز التعليمي المعرفي، ممن أسسوا بناء الصرح المعرفي الأكاديمي في جامعاتنا الكبرى، واحتفوا بمسيرة الرواد الأدباء والمثقفين، ممن سبقوهم (بقليل)، بطريقتهم العلمية ومناهجهم البحثية، الأدباء إياهم الذين كان لهم قصب السبق في البدايات التاريخية الفاعلة المؤثرة..

 (3)

هذه الكوكبة تمثلها أسماء كبيرة..ك(الدكاترة) «رضا عبيد وأحمد الضبيب وعبدالرحمن الشامخ وعزت خطاب ومنصور الحازمي وعبدالعزيز الفدا وعبدالرحمن الأنصاري..»، وهم الجيل الذي كرس جهوده وطاقاته ومكتسباته الدراسية في أعرق الجامعات العالمية، في سبيل ترسيخ وتطوير تقاليد المنظومة الجامعية لدينا، في تلك المرحلة المبكرة، التي لم يكن لمجتمعنا فيها علاقات تذكر بالمعرفة الحديثة ومناهجها وعلومها ومؤسساتها!

 (4)

فمنذ بداية الستينات الميلادية، وهؤلاء يشتغلون بلا كلل أو ملل ببناء أولى الجامعات السعودية، والتي نهضت بتجلياتها جامعة الملك سعود بالرياض، واستمرت تلك المشاريع النبيلة إلى السبعينات الميلادية، بعد أن عادوا من جديد بشهادة «الدكتوراه» من الجامعات المختلفة التي ابتعثوا إليها، لمواصلة تأسيس البناء الجامعي، بكل جزئياته من خطط ومناهج ومقررات..

كان أستاذنا الدكتور منصور الحازمي يقول عن تلك الفترة: «في زمن سبعينيات الطفرة الاقتصادية في بلادنا، كان الجميع مشغول باقتناص أكبر المساحات في أراضي العاصمة/ الرياض، ومسايرة الانقضاض الجماعي على سبل المادة وغايات الثروة، في الوقت الذي كنت فيه مع زملائي أساتذة «جامعة الرياض» آنئذ، نقتعد فضاء صحراويا في منطقة «خليص» شرق الرياض، لنرتب ونخطط ما يجب علينا فعله للنهوض بالمشروع الجامعي التنويري المحلي.

 (5)

كان هؤلاء الأساتذة.. أساتذة (بحق وحقيق) بوفائهم التام بصرامة المنهج العلمي ودقة البحث الأكاديمي، وموضوعية العلاقة الإنسانية الأكاديمية المفترض نشرها في حرم المؤسسات التعليمية الكبرى! لم يكونوا يتنازلون عن القيم العلمية التي درسوها على يد أساتذتهم هناك، وهذا ليس بالأمر العجيب إذا ما عرفنا أنهم تتلمذوا على أيدي طه حسين وشكري عياد وشوقي ضيف وعز الدين إسماعيل أساتذة ومعلمين. كان المشهد كله صاخبا بالألق المعرفي المبين..

 (6)

ولم يقف جهد هؤلاء الرواد على الوفاء بمتطلبات زمنهم الثقافي فحسب، بل إن فعلهم، من أجل الوطن، امتد لأزمان تالية في تاريخ البلاد، من خلال

إنشاء جيل من الباحثين والأساتذة (الجدد) الذين نهضوا بالحقل الثقافي لدينا وكونوا فيما بعد مشهده المتألق.

 (7)

هؤلاءالرموز الوطنية..ماذا فعلنا لهم؟ كيف كرمناهم؟هل قدرناهم حق قدرهم؟ بالتأكيد، فإن الإجابات تتضمن كثيرا من الإجحاف والتجاهل.. بل إن بعضهم كان يتوسل لأن تمتد سنوات عمله العلمي في الجامعة، بعد بلوغه سن التقاعد (الذي لا يكون منطقيا، ليشمل هؤلاء بالذات الذين كلما كبروا، كلما زادوا خبرة وتأثيرا وإنتاجا).

 (8)

كان يمكن أن نعلق صورهم على جدران مؤسساتهم الثقافية، أو نسمي القاعات وفضاءات تلك المؤسسات بأسمائهم.. كان يمكن الاضطلاع ببرنامج إعداد سلسلة من الكتب التي تعرف بهم وبقضاياهم ومنجزاتهم. كان يمكن أن نعوضهم عن زمن الطفرة بزمن يكفل لهم حياة كريمة فاخرة.

 (9)

من المشاهد المستحقة لإعادة إنتاج هؤلاء الرموز والوفاء معهم «أن قامت الحكومة البريطانية بشراء منزل الروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز، وحولته إلى متحف عظيم يحتوي على كل مشهد من حياة هذا الأديب الكبير..غرفة جلوسه..مكتبته..صالون لقائه بأصدقائه وقرائه..».

 (10)

..ولكن هل تأكدنا من امتلاك روادنا السابقين بيوتا لائقة «تصلح» لأن تكون متاحف أثرية أثيرة؟!