كنت في الصف السادس الابتدائي حينما وزعت علي طالبة أخرى ورقة كتب عليها بالآلة الكاتبة أسماء مجموعة من السيدات (وأزواجهن) تحت عنوان مشين يوحي بأنهن قمن بفعل مسيء للدين والوطن. وقد كان ذلك الفعل هو قيادتهن للسيارة عشية حرب تحرير الكويت في العاصمة الرياض، وقد عرفن لاحقا بنساء «نوفمبر 90». كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها كلمات مثل: علمانية وليبرالية، ولم أعرف معناها ولا لماذا تم وصفهن بها. وفي وقت لاحقا في ذلك الأسبوع استمعت لنقاش حاد بين معلمتين حول القضية، إذ كانت إحداهن مع رفع الحظر والأخرى ضد. بات عقلي مشوشا، إذ لم أعرف أيهما -وأنا يومها ابنة العاشرة- على صواب، ولم أستطع في ذلك الوقت تكوين رأي خاص بي. فقد كنت معتادة على رؤية المرأة وهي تقود السيارة في بريطانيا وأنا طفلة. وفي نفس الوقت كان هذا الأمر في السعودية من المحظورات العظام.
ستمضي السنون، وككل المطالب المشروعة فإن القضية لن تموت، وستستمر المطالبة بالقيادة وتناول هذه القضية من فترة إلى أخرى، رغم كل اللعنات الاجتماعية والمشكلات القانونية التي ستتعرض لها من تتبنى القضية.
آنذاك كان تيار الممانعة قويا، حتى إنني وجدت في دفتر مذكراتي وأنا مراهقة صفحة أتكلم فيها عن مخاوفي من انتشار الفساد في بلاد الحرمين فيما لو سُمح -لي ولزميلاتي- بالقيادة! وستكون هذه القضية واحدة من أكثر القضايا حدة التي ناقشتها مع زميلاتي في سنتنا الجامعية الأولى، وعدت حزينة إلى البيت لأنني اكتشفت أنني أدرس وسط مجموعة من النساء الداعمات للفساد!
وأنا إذ أسترجع هذه الذكريات اليوم أغفر كل ذلك لنفسي، فأنا ابنة جيل ولد وترعرع في عز سنوات التطرف والانغلاق محليا ودوليا، زمن الحروب والتجاذبات السياسية والدينية، فقد سبقت مولدنا أحداث جسيمة هزت المنطقة؟، ابتداء بالثورة الخمينية في إيران، واحتلال جهيمان العتيبي الحرم المكي الشريف، والغزو السوفيتي لأفغانستان، ومن ثم شهدنا اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية، واحتلال الكويت! فالخطاب الاجتماعي والديني وقتها كان يميل للانغلاق وللرأي الواحد، حتى الاختلاف الفقهي التاريخي بين المدارس السنية المعتبرة ما كان محبذا أو مقبولا وقتها.
ثم دخل الإنترنت للمملكة، وبدأنا لأول مرة ننفتح على آراء أخرى وأفكار متنوعة، وبدأت البعض يتشجع في طرح القضايا الساخنة عبر الإعلام الرسمي هذه المرة. وأذكر أن جريدة الوطن السعودية كانت أول من طرح هذه القضية للنقاش بشكل علني في الصحافة السعودية، وكنت يومها طالبة على مقاعد الدراسة الجامعية، وتابعت القضية باهتمام. ومع أن باب النقاش أغلق بعد فترة، ومع أن الضغط الاجتماعي سيجعلني أتحرج من طرح القضية بشكل مباشر في بداياتي عندما صرت أنا كاتبة في «الوطن»، إلا أن طرح الموضوع للنقاش العلني كان قد أزال الكثير من الهالة المخيفة المحيطة بهذا الموضوع، وكأنما لوحة «ممنوع الاقتراب» قد أزيلت وحل محلها لوحة أخرى «ممنوع اللمس» فحسب.
ستمضي الأيام، وستتصاعد المطالبات وستروج الشائعات عن قرب تمكين المرأة من القيادة، وسيكون هناك تراشق إعلامي بين الأطراف التي تملك رؤى مختلفة حول القضية، وغالبا ما كان هناك كذلك شجب لها من على المنابر، لكن رويدا رويدا فقدت القضية مبررها الشرعي (أقوى عقبة)، وبقيت في إطارها الاجتماعي المتصلب.
وستخرج البعثات التي تضم نساء هذه المرة وستحصل العديد من السعوديات على رخص قيادة من مختلف دول العالم العربية والأجنبية، وكنت واحدة من هؤلاء. ومع أنني تعلمت القيادة لكي أستفيد من ذلك أثناء حياتي في بريطانيا، إلا أن شيئا ما في داخلي كان يخبرني بأن هذه المهارة ستلزمني يوما حتى بعد العودة إلى الوطن. كان ذلك التبرير الذي سقته لنفسي لأبرر المصاريف الأسبوعية المتزايدة لدروس القيادة، ومن ثم الاختبارات النظرية والعملية. كنا نعرف أن هذا اليوم سيأتي، فلا يضيع حق وراءه مطالب، كما أن أحدا لا يستطيع الوقوف للأبد في وجه الحاجات الأساسية للإنسان، ومنها حقه في التنقل بالوسيلة التي يراها مناسبة.
شخصيا، وعن تجربة، قد لا أحب القيادة خاصة في الطرق المزدحمة، وحركة المرور في جدة غير مغرية أبدا، وأفضل عليها المواصلات العامة مثل المترو. لكنني سعيدة بأن يكون هذا الخيار متاحا لي ولغيري اليوم بعد صدور الموافقة الملكية الكريمة من قبل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، على منح النساء السعوديات هذا الحق ورفع الحظر السابق عنهن. أمر ما زلت أنا والكثيرات مثلي لم نستوعبه بشكل كامل، فقد قيل لنا كل حياتنا بأن تحققه شبه مستحيل، وأن علينا أن ننتظر اقتناع مجتمع، هو مقتنع بالأصل بأننا أخذنا حقوقنا وزيادة، وقد تجد بكل بساطة امرأة تبرر بكل قناعة كل التهميش أو الظلم أو الإجحاف التي عانت منه النساء السعوديات، أو شرائح منهن، ممن لم ترزق بعائلة محبة داعمة ورجال تشد بهم ظهرها. كنا نعرف بأن القرار تحت الدراسة، ولكن أكثرنا تفاؤلا لم تتوقع صدور القرار بهذه السرعة وهذه السلاسة، مما جعلنا نعاني مما يشبه صدمة الفرح!
وبعد أن نستفيق قريبا من هذه الصدمة الجميلة، ندرك أنه ما زالت تنتظرنا عقبات اجتماعية وحتى عملية ولوجستية كثيرة. مثلا المواقف المصممة في الجامعات والمدارس وكافة مرافق العمل ذات الفروع النسائية والرجالية في نفس المكان، مصممة للذكور فقط وعلى عددهم، فمضاعفة ذلك العدد فجأة قد يكون تحديا صعبا في مساحات محدودة، لكن نتمنى أن تكون هذه المؤسسات والمرافق والشركات على قدر المسؤولية، فتبحث عن حلول جذرية تتحقق فيها المساواة، ولا تعمد إلا توزيع هذه المساحات على الرجال دون النساء، بعض الموظفات دون غيرهن تحت حجج واهية. والأمر نفسه بالنسبة للطالبات والطلبة في الجامعات لا بد أن تكون هناك نسبة وتناسب بين الأعداد المتاحة لكل شطر.
ندرك أن التحديات ما زالت كثيرة، لكننا ندرك أيضا أن قافلة المرأة السعودية المنطلقة للأمام نحو القمة قد انطلقت، ولن يوقفها شيء، بإذن الله.