حلم أو علم.. كانت هي العبارة الأولى التي نطقتها وكتبتها حين تلقيت خبر الأمر السامي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة. أول رد وصلني كان من متابعة كريمة من دولة مجاورة، تبارك وتؤكد أنني لست في سابع حلم، بل هو علم حقيقي. كنت حينها في أحد الأسواق وأناوب نظري بين جهازي وبين الآخرين لأسبر ردة فعلهم. أغلب من شاهدتهم في ذلك السوبرماركت المترامي الأطراف، كانوا مدهوشين أمام أجهزتهم الكفية، تركوا التبضع وأقبلوا على هواتفهم بالقبضات لا يلوون على شيء، منهم من وقف إلى ركن أو عمود، وآخرون يحومون في المحل طولا وعرضا، يشع في وجوههم وهج الشاشات التي تكشف على محياهم ومحياهن تباين الذهول والفرح. في قسم الأسماك من نفس المحل، تحدثت إلى سيدة لأسجل انطباعها، فقالت: خبر تاريخي ويوم تاريخي. كان الصيدلي «الوافد» في المحل المجاور هو الآخر منهمكا بجواله، قلت ما الذي دهاكم، الكل يقلّب جواله؟ يرد: خبر القيادة يا باش مهندس.
الأمر يا سادة ليس مجرد السماح للمرأة بقيادة السيارة بقدر ما هو الرمزية في قوة القرار والإيذان بالتحول الكبير نحو الاتجاه الصحيح. قيادة المرأة للسيارة بالسعودية ليست مجرد قرار وكفى، بل هي جزء من تحول اجتماعي أكبر في المجتمع السعودي قد يكون الأكبر منذ نصف قرن.
القرار يترجم سياسة استمرت لعقود زمنية، أخذت السعودية اتجاهات نوعية محافظة على المستوى الثقافي. بدأت عام 1979 حين شاهد العالم المسلحين الشيعة وهم يطيحون بشاه إيران، وفي المقابل قام المتطرفون السنة، بقيادة الهالك جهيمان، باحتلال الحرم المكي في العام نفسه. اقتربت مؤسسة الحكم أكثر فأكثر من المؤسسة الدينية، وتبع ذلك قرارات، منها إيقاف عرض الفنون على التلفزيون السعودي، وإغلاق صالات عرض الأفلام القليلة المتواجدة في المملكة، تبعها التشدد في موضوع الحفلات الغنائية والعروض المسرحية.
عادت الحركة الفنية للسعودية في سبتمبر 2016 من خلال حفل غنائي ضخم على مسرح الملك فهد الثقافي، وفي سبتمبر 2017 تم السماح للعوائل بدخول الملاعب الرياضية للاحتفال باليوم الوطني، أعقبه إعلان السماح للمرأة بالقيادة على الأراضي السعودية ?ليكون سبتمبر صاحب التميز?
هذه التغييرات الاجتماعية تظهر كيف أن القيادة مصممة على الإصلاح حتى لو اقتضى الأمر سحب المجتمع إلى القرن الحادي والعشرين، طالما غالبية المجتمع تريد ذلك، وهو ما قاله الأمير محمد بن سلمان في عبارته الشهيرة: «في حال كان الشعب السعودي مقتنعا، فعنان السماء هو الحد الأقصى للطموحات». وحين تسبر واقع المجتمع ترى الارتياح الكبير لهذا القرار، مما يدل على قناعة الشعب السعودي بمثل هذه القرارات الجريئة.
وللتدليل على هذا، فقد شهدتُ، شخصيا، مرحلة مسيرة قيادة السيدات السعوديات عام 1990، حينها كان المجتمع عن بكرة أبيه، وكنتُ أحدهم، ضد هذا العمل، ليس لأنه مخالف للنظام فحسب، بل لأنه كان ثقافة مجتمع، ولو سمح بالقيادة، حينذاك، لخالفهم السواد الأعظم. واليوم اختلفت الثقافة المجتمعية باختلاف المرحلة، ليتم استقبال قرار قيادة المرأة بالتهاني والهاشتاقات التي وصلت إلى الترند حتى بلغت عنان الفضاء العالمي، لتُظهر للرائي التوافق بين القيادة وغالبية مجتمعية متعددة الأطياف.
لقد شاهدنا ثلاثة وسوم,? تفاعل معها المجتمع خلال 24 ساعة من بدء القرار بـ 1?.?2 مليون تغريدة عبر ما يزيد على 408 آلاف مغرد، ?، منهم 73,3% مؤيد? بحسب منصة Lucidya للرصد والتحليل، الأمر الذي يقطع بأن التحول هو مطلب الجيل الحالي تحت سن 44 والذي تتجاوز نسبته 80 %? من الشعب يمثلهم الأمير الشاب محمد بن سلمان.
لا نستطيع أن نجد مبررا لمنع قيادة المرأة للسيارة التي هي مجرد آلة تتطلب التشغيل مثلها مثل الأجهزة المنزلية والمكتبية. وعملية تخوين المجتمع والطعن في شرفه بهدف منع المرأة من القيادة أسلوب دوني يمثل الفكر الدوني ليس إلا، فالمجتمع السعودي، ذكورا وإناثا، محل ثقة وتقدير واعتزاز، وهو الذي قدم ويقدم صورا بطولية عديدة في القيم والمبادئ في الداخل والخارج، والسماح بقيادة المرأة في السعودية سيزيد المجتمع مسؤولية هو أهل لها دون شك.
ليس بالضرورة أن يسوق أهل بيتك، في حال كنت لا تريد، لكن المفيد أنه بإمكانك استقدام امرأة سائقة، تتنقل بأهلك أينما شاؤوا وأنت مطمئن بدلا من مسلسل السائق الذكر مع العائلة، وتجمعاتهم في الأسواق والملاحق?,? شاهدة على تسريب أسرار البيوت، فلك أن تتعرف على سائق في الشارع وتدفع له شيئا زهيدا ليخبرك عن خبايا المنزل المستهدف.
كفانا اعتراضات غير محسوبة، تسببت في بلبلة وانقسامات وفقدان الألفة الاجتماعية، فضلا عن الإحراجات لنا ولمجتمعنا وللدولة، لقد سئمنا من اعتراضات الماضي التي أضحت ذكرى محرجة ومضحكة في آن واحد، حين عارضوا تعليم المرأة وحرموا التصوير الفوتوغرافي و «الدش»، واتهموا مقتني جوال الكاميرا بعدم الغيرة على أهله…إلخ!
لنطمئن.. فالوضع الطبيعي هو الذي نحن سائرون عليه حاليا، بينما غير الطبيعي هو ما كنا عليه قبل ذلك.