الواقع الذي أحدثه أمر الملك سلمان، الذي تضمَّن السماح في المملكة بقيادة المرأة للسيارة، و«إصدار رخص القيادة للذكور والإناث على حد سواء»، والصدى الواسع الذي استثاره داخل المملكة وخارجها، يعنيان حدثاً تاريخيا أبعد من علاقته بالمرأة بوصفها موضوعه المباشر، وأوسع من أن ينحصر فيها.

ذلك أن حظر القيادة على المرأة كان ناتج نظرة تمييزية ضدها تنتقص عقلها وأخلاقها وحسها بالمسؤولية. وهي نظرة ذكورية أسبغ عليها بعض الفقهاء استدلالاً دينياً، وجرى تطويعها توهُّماً وظناً في باب الذريعة إلى الشر والرذيلة والفساد الأخلاقي والاجتماعي، الذي يأخذ في المنظور الفقهي أحكام ما يفضي إليه، ويجب سدُّه عند ترجُّح إفضائه إلى ما لا ينبغي. ولاحقاً اختلقت الذريعة حُجَّتها –لدى بعضهم- من الزعم بإفضاء قيادة المرأة إلى مخاطر صحية على «مبايض» المرأة وما إليها.

ولم تبق المسألة –مع عديد المسائل التي تشبهها- موضوع اختلاف فقهي، يبحثه أهل الاختصاص، وينطبق عليه ما اتفق عليه الفقهاء قديما وحديثا، من أنه «لا إنكار في مسائل الاختلاف»، بل أخذت –مع ما يشبهها من المسائل- صبغة إيديولوجية ضمن صراع التيارات الاجتماعية، يستقوي بالتشدد فيها ما سمي بتيار «الصحوة»، ويجد لدى عديد الفقهاء «السلفيين» سنده ضد خصومهما.

وهذه هي عقدة التطور الاجتماعي والتنمية والحداثة في المملكة، التي تتخطى جلوس المرأة خلف مقود السيارة، مثلما هي العقدة نفسها منذ مطلع العصر الحديث في أصقاع العالم العربي والإسلامي المختلفة: عقدة الصراع بين تيارات المجتمع الدينية والتقليدية من جهة، والليبرالية والتنويرية من جهة مقابلة، التي تُختَلَق الذرائع فقهياً مثلما تُختلق التأويلات للنصوص الدينية للتغطية عليها.

ولم يكن يتضح هضم حقوق المرأة والاستبداد الذكوري بها في شيء أوضح منه في التمييز ضدها في قيادة السيارة، خصوصاً في مسافة النظر إليها من الخارج، أو في مسافة النظر إليها من الجيل الأحدث من السعوديين والسعوديات الذين يعيشون في داخل المملكة عصر العلم والتقدم والاتصال المفتوح بالعالم، والاطلاع على مشارب فكرية دينية ومدنية حفيَّة بالفرد ومتطلِّعة إلى حياة أسعد وأوفر حقوقاً. لقد كان ظاهر قيادة المرأة للسيارة في المملكة، كما يريد أن يصورها أولئك المؤدلجون، واحداً من نقيضين لا توسُّط بينهما: الالتزام بالدين أو التفلت منه، والأخذ بأسباب الحفاظ على العفاف والفضيلة أو التراخي فيها. ومن ثم كان وصمهم لخصومهم بـ«التغريبيين» وما يتفرع عن هذا الوصف ويرادفه في أفهامهم من العداء للدين والمتدينين والتآمر على عفاف المرأة والدعوة إلى الابتذال والضلال. في حين كانت المسألة، في تلك الوجهة الممانِعة، موقفاً حزبياً إيديولوجياً يستخدم الدين ويوظفه بما يضاد الوجهات المختلفة عنه، للتمكين لسلطته وغلبته الاجتماعية. والنتيجة هي إعاقة التقدم الاجتماعي والثقافي، وإحباط بوادره، وتشويه دعاته، والطعن في رموزه، لاسيما والمرأة عصب حسَّاس في فعل التقدم، وجوهر لا يمكن للمجتمعات أن تخوض معركتها في التنمية والبناء من دون استيعاب حضوره والإفساح له وتشارُك المسؤولية معه، وتحميله إياها، كما يتحملها الرجل سواء بسواء.

هكذا يجب أن نتصور ضخامة الأثر الذي أحدثه الأمر السامي بمنح المرأة الحق في امتلاك رخصة القيادة للسيارة على حد سواء مع شقيقها الرجل، ونفهم شجاعته، والمنظور الذي يتأسس عليه والذي يترامى إليه، وطبيعة الوعي الذي تجاوب معه وأدرك أهميته، وما استثاره من أصداء واسعة.

وأول دلالات الأهمية التي يصنعها هي البرهنة على وجهة الرؤية الجديدة للمملكة، الوجهة التي تَبْتدر حقبة جديدة حديثة طموحة، ومشرئبَّة إلى مكانة سامقة في عالم متحضر، يأبى التمييز والعنصرية، ويفجِّر طاقات الإبداع والإنتاج، بضمانات الفرص المتساوية للنساء والرجال، في زمن باتت الحاجة ماسة إلى المشاركة الواسعة من أبناء الوطن وبناته في العمل والإنتاج.

وهذه هي الرؤية الشابة التي يؤسس لها ويقودها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، منذ أعلن رؤية المملكة 2030، الفيَّاضة بالوعود والمستلزمة لقرارات شجاعة تعي أول ما تعي المشكل الثقافي الاجتماعي التقليدي وما نشأ في أحضانه من وجهات متسلطة وذات نفوذ في تكريس الواقع الساكن وإدامة سلبيته وجموده.

ولا يقل عن أهمية البرهنة على التحول والطموح إلى واقع اجتماعي وثقافي تستلزمه التنمية، التجاوبُ –في دلالة الأمر السامي- مع منطق الحق الإنساني، وإيقاف التمييز ضد المرأة بوصفه انتهاكا للإنسانية، لا يليق بنا ولا بعصرنا ولا يجوز أن يُنسب إلى ديننا.

وهذا المغزى على وجه التحديد هو السبب الذي جعل السماح بقيادة المرأة السعودية للسيارة موضوعاً مُتَنَاقلا في وسائل الإعلام العالمية بما في ذلك كبريات الصحف وصَدْر نشرات الأخبار في أكثر القنوات شهرة. وكان موضوع احتفاء وتعليق من رؤساء ومسؤولين في دول كبرى، وموضوع ترحيب المنظمات الحقوقية، على الرغم من اختصاصه في موضوع اجتماعي داخلي.

ومن المؤكَّد أن الدلالة على أهمية الأمر السامي وتاريخيته لن تكتمل من دون أن نأخذ في الحسبان المنطق الذي ينطوي عليه موقف الممانعة لقيادة المرأة للسيارة؛ فهو موقف لا تنحصر دلالته في التحقير للمرأة، بل يتعدى ذلك إلى اشتماله الضمني على اتهام العالم كله بما فيه المجتمعات العربية والإسلامية، وإدانته إدانة أخلاقية ودينية؛ لأنه يفرض، بسماحه للمرأة بالقيادة، الشر والرذيلة والتفسُّخ. وإلى ذلك فهو موقف لا يتنبه إلى ما ينطوي عليه من تناقض حين يجمع بين ظاهر يدلل على المحافظة الاجتماعية ويفخر بها، وبين باطن هو على الضد من ذلك يتهم صراحة أخلاق النساء والرجال جميعاً، ويطعن في عفافهم وحشمتهم، ويسيء الظن بهم، أو حين يجمع بين اختصاصه المرأة بالممانعة وإحاطتها بالاسترابة والمخاوف، وإطلاق الرجل من ذلك وإعفائه من سوء الظن.

أما حدِّيَّته وعنفه تجاه خصومه والمنتقدين له، ومفاصلته معهم، فيصعب اختصاره في عبارة. فمن تصنيف الخصوم بما يضعهم في صف العداء للدين والمروق من آدابه وتعاليمه وتفسيقهم وتخوينهم والشتيمة لهم، خصوصاً باستخدام جيش من المعرِّفات المجهولة في وسائل التواصل، إلى تجييش الشارع، باستخدام منابر المساجد وغيرها... في مجتمع من السهل استخدام عاطفته الدينية للعبث بوعي شرائح غير قليلة فيه وتجنيدهم إيديولوجياً باسم الدين.

هذه الصورة للموقف التي تعمَّقت مع الزمن واكتسبت تماسكاً انعكست على الأهمية التي يقرأ بها المراقبون السماح بقيادة المرأة للسيارة، من حيث هو وعي شجاع، من قمة المسؤولية الوطنية والحكومية، ومنطق حزم وعزم وحسم، ووعد بمستقبل لا يعوقه الجمود ولا تأسره الأفكار العقيمة.

ولهذا فإن علينا أن ننظر إليه بوصفه باباً انفتح على المستقبَل، وأن ننتظر مزيدا من الأنظمة والتشريعات اللائقة بالانفتاح على زمن جديد.