جاء القرار السامي بالسماح للنساء بقيادة السيارات مُنهياً الجدل الذي قارب الثلاثين عاماً على هذه القضية. القضية التي كانت حداً فاصلا في النظر إلى الكثير من القضايا، بوصفها محوراً من محاور الصراع الفكري والتياري والاجتماعي في السعودية، حتى تحولت القضية من قضية حقوقية طبيعية إلى قضية رمزية بوصفها القضية الأكبر جدلا منذ سنوات طويلة، والبهجة التي حصلت بعد هذا القرار كانت كبيرة بسبب البُعد الذي أخذته القضية، حتى أن البعض وضعها كمرحلة فاصلة كما كانت قضية تعليم المرأة في السعودية أواخر السبعينات الهجرية، ولذلك فالبهجة الكبيرة كانت بسبب حجم القضية، وهذا ما يعيد الذاكرة إلى تلك السنوات التي كان فيها الجدل حول قيادة المرأة، بحيث يمكن أن تكون الذاكرة المكتوبة فرصة لمعرفة الجو الاجتماعي في تلك الفترة، خاصة في المجتمع الشعبي وليس النخبوي الديني أو الثقافي.
تعود الذاكرة عندي إلى منتصف وأواخر الثمانينات. إلى تلك الذاكرة الطفولية التي رأت وسمعت الحديث عن قيادة المرأة. كانت النساء في القرى منتصف الثمانينات وأواخرها يقدن السيارة، أتذكر الآن كيف كانت دهشتنا ونحن صغار في رؤية بعض النساء اللواتي يقدن السيارة. كان التصور الطفولي لدينا يقول إن السيارة مخصصة للرجال فقط دون النساء، لكن كون هناك عدد من النساء يقدن في القرى جعل الأمر طبيعيا لنا، وبدأنا نتقبل الأمر بصدر رحب خاصة مع عدم اعتراض آبائنا على هذا الموضوع، فلم تكن المرأة التي تقود مشكوكا في أخلاقها، بل هو أمر طبيعي تقضي به حوائجها وحوائج أهلها.
في المدن لم تكن النساء يقدن كما في القرى. يمكن أن ترى امرأة أو اثنتين يقدن السيارات على أطراف المدن دون أن يجرؤن على الدخول إلى الشوارع الداخلية في المدينة، وأنا أتكلم هنا عن مدينة حائل، ولذلك كان يصعب رؤية امرأة داخل المدينة تقود كما هو الحال في القرى التي كان الأمر فيها طبيعياً ومعهوداً، حتى يكاد أن يكون في كل بيت من البيوت القروية تجد امرأة تقود وليس الكل بالطبع، ولم تتقلص ظاهرة قيادة النساء في القرى إلا في منتصف التسعينات تقريباً إذ صار الجدل كبيرا ضد قيادة المرأة بعد صعود وقوة الخطاب الديني في السعودية.
كانت حرب الخليج قد اندلعت وطالت إجازات المدارس مما جعل عددا من الأسر ينتقلون من المدن الكبيرة إلى مدن الأطراف. كان أخوالي قد انتقلوا من المنطقة الشرقية الدمام والخبر إلى حائل في تلك الإجازة الطويلة. كان عمري وقتها يقارب الثالثة عشرة. وفي إحدى الجلسات كان الحديث يدور عن حوالي 47 امرأة قدن السيارات في الرياض. كان خبراً بالنسبة لأهل المدن كبيرا وصادما خاصة مع صعود التيار الديني وقوته، لكن المجلس ذلك الذي دار فيه الحديث عن النساء لم يذهب بعيدا في اتهاماته أو التشكيك في الأخلاق. ربما لأنهم كانوا متحدرين من البادية والقرى وكان الأمر طبيعيا بالنسب لهم. حين كبرت وعرفت القضية برمتها اكتشفت بأنه لا أحد وراءهن وإنما هو اقتناع بأهمية الحدث من قبلهن، ودعمهن بعض أزواجهن.
في تلك السنة كان مجموعة من الشباب المتدين هائجاً بسبب تلك الحادثة وكانوا يوزعون منشورات بأسمائهن وأسماء أزواجهن مع أوصاف لم نكن نعرفها من قبيل علماني وشهواني وتغريبي. لم تكن تلك المصطلحات رائجة وكانت غير معروفة في مجتمعنا، وبقي ذلك الحدث في ذهني حتى كبرت وعلمت بتفاصيله.
نسي الناس الحدث، ولكن بدأت النساء في القرى يغبن عن القيادة فلم نعد نرى امرأة أو بنتاً تقود السيارة في القرى إلا نادراً إذ لم يكن يقدن السيارة إلا في الضرورات القصوى، لكن في نهاية التسعينات وبداية الألفية كنت طالباً في مرحلة البكالوريوس بكلية المعلمين بحائل. كانت الكلية تقع في الطرف الشمالي من مدينة حائل. كنا نخرج من شارع الأمير نايف (شارع الحب كما كنا نسميه) في شمال حي صديان أو المنتزه. كانت هناك امرأة تقود السيارة ومعها رجل كبير في السن وطفل. كنا نقول إنه زوجها ولا ندري عن حقيقة الأمر. كنا نراها تقف في الإشارة ثم تتجه شمالا وتغيب بعيدا عن الكلية ولا نعرف إلى أين. كنا نختلق قصصا من عندنا بأنها تذهب مع زوجها وطفلها إلى غنم لهم في قرية النيصية (أصبحت النيصية الآن حيا من الأحياء الشمالية وجامعة حائل أبعد منها). اللافت في الأمر أننا كنا نتعامل معها بشيء من الاحترام وما كنا نشكك في أخلاقها ولا أخلاق الرجل معها. كان أقصى تعليق عندنا أنها بطيئة في السير وتعرقل سرعتنا المتهورة في الطرق. رأيناها ثلاث أو أربع مرات ثم اختفت لم نرها بعد ذلك.
كانت تلك المرأة بالنسبة لي هي آخر مرة أرى فيها امرأة تقود السيارة في السعودية. كل ما رأيناه لاحقا كان عبر السوشل ميديا من بعض النساء المطالبات بالقيادة، التي توجت بالقرار السامي الأخير.
في الأخير أريد أن أقول: إن المجتمع الشعبي البسيط كان مهيأ منذ الثمانينات لقيادة المرأة، وكان الأمر يعتبر طبيعياً منذ تلك السنوات.