أنا المدرسة، أحدثكم وأنا جماد أشعر ولا أتكلم، مثلي مثلكم أسبح الله وأحمده ولكنكم لا تفقهون. عندما كنت صغيرا، رأيت بساطة أجدادي وآبائي، فكانوا يتنقلون من مدينة لأخرى، لكل مدرسة معلمها، بل كان المعلم مدرسة حتى تلبسنا ثياب معلمينا. رأيت في أجدادي الحياة من علم أصحابها. ورأيت مستقبلي في جيل آبائي، فأصبح للمدرسة كيان كبير، وكنت أرى أبي بأسواره وأبوابه وفصوله وساحاته، كيان أفتخر به وأنتظر الأيام لأكون مثله. كم حزنت عندما سمعت جدي يبكي لأنه لم يستطع توفير الضوء لمعلمه وطلابه، وكم سعدت عندما رأيت بسمة أبي وهو يضيء أوراق معلميه وطلابه، ليسهل عليهم العلم والتعلم. تحدثت أنا وزملائي المدارس عن مستقبلنا وكيف أننا سنحتضن ملايين الطلبة بين أسوارنا، وسنقدم للمجتمع أكثر مما قدمه آباؤنا وأجدادنا، ولم نرد أن ننتظر المستقبل، بل سعينا نحوه.

ومرت الأيام، وازداد زملائي ليكونوا في كل مدينة ومنطقة، وكان لكل منا مجتمعه وعنوانه. فما عدت أرى زملائي، ولا أسمع عنهم. وأصبحت وحيدا وسط مجتمعي، ولكني أكبر وأقوى، فلم يعد لدي معلم واحد، بل أصبح لدي فريق كامل من المعلمين والإداريين، وتضاعفت أعداد طلبتي، وارتفعت أسواري، وتوسعت ساحاتي، وأضيئت فصولي. ومرت الأيام والسنين، وأصبحت شيئا فشيئا لا أعلم من أكون. أأنا جماد أم كيان؟ لماذا أسمع بين فصولي ما لا أشعر به بين أسواري؟ لماذا تغلق أبوابي عن مجتمعي؟ لماذا لدي جدران لم تشعر بطلابها وبعض جدراني تهشم منهم؟ أنا المدرسة، رأيت ماضي أجدادي وأستعد لمستقبل أبنائي، حيٌّ أسبح بحمده، أشعر وأرى ولا أتكلم. ولكني تعلمت من فصولي الكتابة، لأكتب لكم.

أنا المدرسة، عنواني ثابت ولا أستطيع الحراك، وزملائي في كل مكان وكل لديه عنوانه لا يتحرك. أمامي منازل وحديقة وسيارات كثيرة. أرى على الناصية الأخرى بعض طلابي يهجرونني في الصباح، وبعضهم يقطع الطريق دون حذر، وآخرون يجلسون على أرصفتي أحاول أن أظلهم بأسواري، وسيارات تصرخ حولي من الازدحام، وساحات بها أشجار تبكي. تحدثت مع الشجر، فأبكاني معه. وتحدثت مع جدران المنازل حولي، وسمعتهم يصرخون بأنهم لا يريدون مجاورتي، لأني أسبب لهم الزحام والازعاج. لا أستطيع الحراك.

أنا المدرسة، أسمع بين فصولي أساتذة يقولون «النظافة من الإيمان»، وأرى جدراني ملونة ومرسوم عليها نقشات لا أفهمها ولم أرها من قبل. وأقرأ على أبوابي عبارات أخجل منها، وأرى ساحاتي مع نهاية كل يوم مليئة ببقايا المأكولات والأوراق وغيرها. أرى فصولي حزينة، لأنها بها طالب يلهو، وآخر ينام، وآخر يضحك على معلمي.

أنا المدرسة، أبتسم عندما أرى طالبا ينادي للعلم، يرفع يده مشاركا، فعندما تتلألأ عيناه استقبالا للعلم، تنير جدراني وساحاتي بهجة وسرورا. أتذكر فيها أيام أجدادي وآبائي، فكم أنا أفتقدهم. رأيت ما لم أره عند أجدادي، أنوار في فصولي، مكتبة بين أسواري، شاشات كبيرة على جدراني، وحتى أني رأيت نفسي في جهاز يوفر العلم من كل مكان، فيستطيع طلابي من خلاله التواصل مع العالم وقراءة ما يريدون. فرأيت طفولتي في هذا الجهاز، يتحرك مع طالبه ولا أستطيع الحراك.

أنا المدرسة، كنت ألبس لباس معلمي، واليوم أنا داخل سور، أبوابه موصدة، مغلقة عن مجتمعي. البيوت من حولي لا تريدني قربهم، وملاعبي وساحاتي مهجورة نصف أيام السنة. لدي ساحة، وملعب، ومكتبة، ومسجد، وقاعات، وفصول مجهزة بطاولاتها وكراسيها وسبورة يشرح معلمي فيها دروسه، ولكني أسمع الصمت أكثر من الصوت.

أنا المدرسة، ومع هذا كله، فإني ابتهج لأن بين أحضاني طلاب منهم من سيقود التعليم يوما، ويعيد لي جدي وأبي، ويحمي أبنائي وبناتي المدارس. أنا المدرسة، سأظل خادما لمعلمي ومجتمعي وللعلم.