منذ أن نشأ الإسلام, نشأت معه إشكالية النص والتفسير, وقد حدث هذا في زمن النبي عليه الصلاة والسلام مرات عديدة أن يختلف أصحابه على تفسير ما قال والتصرف بناء على ذلك. وبعد وفاته زادت الخلافات وتفرعت بسبب غيابه الذي كان يحسم كل خلاف. كما أن تفرق الصحابة في البلدان قد أدى إلى نشوء مدارس فقهية مختلفة, أهمها في ذلك الوقت مدرسة المدينة وفقهاؤها السبعة من أبناء وتلاميذ الصحابة, ومدرسة العراق وهم تلاميذ الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود الهذلي. كانت هاتان المدرستان, أول مدرستين فقهيتين في الإسلام, وكان بينهما خلافات شتى في تقرير الأحكام والرؤى الفقهية حول الدين والحياة, وكان موقفهما من بعضهما في البداية يخلو تماماً من التسامح ويعتريه عميق التشنيع والإنكار والاتهام في الدين الذي يصل للتكفير. ثم تدرجت الأمة إلى قبول هاتين المدرستين لبعضهما على مضض, وبشرط ألا يتتبع المسلم الرخص بحيث يجمع التسهيلات الموجودة عند العراقيين إلى تلك التي عند المدنيين وقيل: "من أخذ برخصة أهل المدينة في المعازف (الآلات الموسيقية) وقول أهل العراق في النبيذ فقد جمع الشر كله". اعقد على هذه إصبعاً, فالمدرسة الفقهية السلفية الأولى كانت تبيح الموسيقى.
بعد ذلك نشأت المدارس الفقهية المعروفة, فخرج أولاً أبو حنيفة النعمان في الكوفة ليكون وريث فقه أهل العراق وتلاميذ ابن مسعود, ليكوّن مدرسة القرآن والعقل. وبعده برز مالك ليكون الأمير غير المتوج ووريث مدرسة أبناء الصحابة التي يطغى عليها فقه عمر بن الخطاب وابنه عبدالله والسيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
من الملاحظات التي رأيتها في هذا المضمار أنك تقرأ كتاب مالك (الموطأ) فلا تجد حديثاً من مسند عبدالله بن مسعود فيه, ليس نقصاً في محبته, ولكن بسبب أن تلاميذه في العراق وليسوا في المدينة وأنه لا يعرفهم. في تلك الفترة لا تسل عن احترام الرأي الآخر لأنه غير موجود, ولذلك أرسل مالك رسالته الشهيرة إلى فقيه مصر الليث بن سعد ينهاه عن مخالفة عمل أهل المدينة ويأمره بمتابعة هذه المدرسة, برغم أن مؤرخي الفقه الإسلامي يقولون إن الليث بن سعد كان أفقه من مالك بالدين, إلا أنه كان سيئ الحظ فلم يرزق بتلاميذ كتلاميذ مالك ينشرون مذهبه في العالم الإسلامي, أما مالك فكان على الخلاف من ذلك, ومن القصص المأثورة عنه أنه جاءه أناس من البلاد المفتوحة في المغرب العربي, فأثنى مالك على أميرها خيراً ومدحه, فلما بلغ الأمير هذا الثناء أمر بنشر المذهب المالكي هناك وما زال الأمر على هذا إلى الآن. لفتة صغيرة أدت لهذا الانتشار.
يقوم الخلاف المنهجي بين المذهبين على أن الأحناف يرجعون إلى القرآن والعقل ومسند لأبي حنيفة من سبعة عشر حديثاً تدور بين المتواتر والقواعد الفقهية المأخوذة من السنة, أما مذهب مالك فيقوم على تقديم عمل أهل المدينة وفهمهم للقرآن والسنة. هذا كله أدى ضرورة إلى خروج مدرسة ثالثة تجمع بين العقل والحديث, أو بعبارة أخرى, تعقلن السنة, وهنا نشأ المذهب الشافعي, الذي اعتمد عليه كثيراً أهل الحديث: أحمد بن حنبل ومن جاء بعده.
هذا الخلاف الشاسع بين المسلمين والذي حدثت بسببه فتن شتى في تاريخنا, حتى إن الفقهاء صاروا يذكرون في كتبهم وشروحهم مسألة: هل تجوز صلاة الشافعي خلف الإمام الحنفي أم لا تجوز؟ نعم لقد وصلت الفتنة إلى مناقشة مثل هذه التفاصيل، وكذب الكذابون أحاديث من نوعية "يخرج في هذه الأمة رجل أشر من إبليس, اسمه محمد بن إدريس (يقصدون الشافعي)، ويخرج فيها رجل يقال له النعمان بن ثابت هو سراج أمتي المنير. (يقصدون أبا حنيفة).
هذا المشهد القاتم الذي وشى بشرّ قادم للأمة الإسلامية مبناه على التعصب للأشخاص والمناطقية وكان لا بد أن يصنع شيء يقي الناس من هذا المنزلق, ومن هنا خرجت فكرة التسامح عند المسلمين ودشن مبدأ "لا إنكار في مسائل الخلاف". وللحديث صلة.