أعلنت وزارة التعليم قبل أيام قليلة إحصائية لعدد المبتعثين السعوديين في كل دول العالم، كان العدد ضخما جدا، وهذه الإحصائية بمثابة إعلان أن السعودية هي أكبر دولة في العالم تبتعث أبناءها للخارج، قد يقول البعض إن دولة الصين هي الدولة الأولى في عدد طلابها المبتعثين في الخارج، ولكن كم عدد طلابها المبتعثين مقارنة بعدد سكانها، إذا ليس من العدل أن نقيس ترتيب الدول في ابتعاثها طلابها بعدد مبتعثيها ونتجاهل التعداد السكاني لشعبها، السعودية هي المرتبة الأولى دون منافس في نسبة عدد مبتعثيها مقارنة بعدد السكان، لم يقتصر الابتعاث على دول محددة، أو لغة محددة، بل لكل دول العالم مثل فرنسا وألمانيا وأستراليا وسويسرا والصين والولايات المتحدة، وبريطانيا وبلجيكا وكوريا واليابان، والقائمة تطول لعدة دول بلغات وثقافات مختلفة، والجميل أن من شروط وزارة التعليم أن يدرس المبتعث بلغة أهل البلد الذي يبتعث عليه، فتجد الطلاب المبتعثين يجيدون معظم لغات العالم الإسبانية والإيطالية والفرنسية والألمانية وحتى اللغات الصعبة مثل الصينية والكورية واليابانية، وهذا شيء يحقق بعض أهداف الابتعاث التي رسمت من أجله حكومتنا خططها، كانت تستطيع المملكة بميزانية الابتعاث الضخمة أن تجلب أهم جامعات العالم لأرض السعودية وتلحق الطلاب بها، ولكن الهدف من الابتعاث هو اكتساب الطلاب المبتعثين مختلف ثقافات العالم، ولأني أحد المحظوظين بالاستفادة من برنامج الابتعاث الخارجي فلقد لاحظت للأسف انعزال بعض المبتعثين عن المجتمع الذي يعيشون فيه، يبدأ الاستعداد للسفر إلى بلد الابتعاث متشبثا بالبيئة التي اعتاد عليها في السعودية، يسافر باحثا عن المدن التي يكثر بها المبتعثون السعوديون، يتواصل معهم قبل وصوله، يحرص على أن يستقبلوه في المطار، يبحثون له عن السكن، ليصبح معتمدا عليهم في مواجهة المتغيرات التي تطرأ على حياته الجديدة، ينعزل تماما عن مجتمع البلد الذي ابتعث للدراسة إليه، تمضي سنوات الابتعاث وهو لا يعرف ثقافتهم، ولا تاريخهم، ولا نظامهم السياسي، ولا أسماءهم، يتعامل معهم بخوف وارتباك ووجل، ويؤثر ذلك على إتقانه للغتهم، بينما تجده دائم الاجتماع بالسعوديين والعرب في محيطه، يحرص على تناول الوجبات ذاتها التي اعتاد عليها في السعودية، ونفس العادات والأحاديث المكررة، ويخلق لنفسه عزلة وحاجزا بينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه حتى يعود بعد انتهاء البعثة إلى السعودية، وهو ما زال يحمل نفس الأفكار وطريقة التفكير وعدم تقبل الثقافات الأخرى، ونجده لم يستفد من تجربة الابتعاث سوى الشهادة العلمية التي يستطيع أن يحصل على أفضل منها داخل السعودية دون أن يكلف الحكومة مبالغ ضخمة تدفعها على الابتعاث ليستفيد منها الطالب، وبالتالي المجتمع من جيل يحمل فكرا منفتحا، يفهم ثقافات أخرى، ويتقن لغات أخرى، ينقل من تجارب الشعوب الأخرى أفضل ما لديهم.

بعض الطلاب المبتعثين يخبرونني بأنهم لم يجدوا انسجاما مع المجتمع الذي يعيشون فيه، سواء كان في الصين أو إسبانيا رغم إتقانهم للغتهم، ولكن يختلقون لأنفسهم الأعذار بأنهم لا يجدون حديثا مشتركا بينهم وبين الياباني أو الإيطالي، ولذلك يكتفون بالتحدث معهم على عجل، دون الحرص على توطيد العلاقات معهم أو تنميتها، وأعتقد أن ذلك يعود لعدم اطلاع المبتعث على ثقافة الشعب الذي يعيش فيه، لا يقرأ تاريخهم، ولا يفهم ثقافتهم، ولا يهتم بأخبار مجتمعهم وآخر التطورات على ساحة البلد الذي يعيش فيه، وبالتالي عند اختلاطه اليومي بهم في الجامعة أو المطعم أو المراكز التجارية أو حتى في مصعد العمارة الذي يلتقي فيه بشكل يومي بالجيران لا يجد الرابط أو الدافع للحوار أو التحدث معهم، ولذلك نجد هناك علاقة طردية بين اطلاع الشخص على ثقافة الشعب الذي يعيش فيه وبين انسجامه معهم أثناء الحديث وبناء العلاقات، وفهم ثقافة الشعوب الأخرى هي الخطوة الأولى التي أتمنى من المبتعثين أن يخطوها للانسجام في المجتمعات الأخرى، والاستفادة من تجاربهم، وثقافتهم، لنسهم في تغيير بيئة المجتمع السعودي التي استمرت لعقود طويلة تحت تأثير الصحوة التي جعلتنا مجتمعا منغلقا على نفسه لا يتقبل آراء الآخرين، ولا يتقبل ثقافة ومعتقدات المجتمعات الأخرى، وجعلنا مجتمعا منغلقا على نفسه منعزلا عن العالم من حوله، يرى أنه صفوة المجتمعات البشرية وهو الثقافة السليمة، وأن ما عداه من المجتمعات الأخرى على خطأ وضلال.