ألِفْنا في ثقافتنا التقليدية، معنى للوطن محصوراً في مكان السكنى والإلْف، وموطن الأهل والعشيرة. ويشتمل -في ذلك الانحصار- على معاني الملكية الشخصية، ومعاني العلاقة الشخصية: المسكن والمزارع والمواشي والمصانع والأهل والأقارب والأصحاب والحبيب.

والوطن -تمثيلا على ذلك- في بيت ابن الرومي الشهير:

ولي وطـن آليــت ألا أبـــيعه

‏ وألا أرى غيري له الدهر مالكا

مقصود به «البيت» الذي نشأ فيه وبات من ممتلكاته في بغداد، وهو من قصيدة تبلغ في الديوان (بتحقيق حسين نصار) 24 بيتا، يتحدث فيها عن محبته لبيته وحنينه لعهود صباه فيه، وعلوق نفسه به مثل علوقها بجسده، ورفضه البيع له. أنشأها، فيما يحكيه الحصري في «زهر الآداب»، شكوى إلى والي بغداد، في شأن جار له من التجار أراد أن يجبره على بيع منزله، باغتصابه بعض جدرانه.

ولكن القصيدة، بعدئذ، أصبحت كَشْفاً في شأن الوطن بحسبانه معنى يجاوز مكان السكنى إلى الذاكرة والهوية،

وإلى منشأ وجود اجتماعي تاريخي لا يمكن بدونه معرفة الفرد ولا تحققه الوجودي. حتى قال الحصري، عند إيراده لبعض أبياتها: «وكان الناس يتشوّقون إلى أوطانهم، ولا يفهمون العلِّة في ذلك، حتى أوضحها علي بن العباس الرّومي».

ومن الواضح أن الوطن لدى القدامى كان يجاوز العلاقة بالمكان أو الجغرافيا من أجل السكنى أو الإقامة أو الاستيطان، إلى العلاقة بمن يسكنه ويجاوره، على ذلك النحو من العلاقة: علاقة القربى والحب والوجود الاجتماعي، العلاقة ضد الاغتراب وضد عدوان الآخر «الغريب»؛ فليست السكنى -وحَسْب- هي ما يجعل مكانها وطنا لمن يسكن أو يحل فيه، وقد ورد في شعر رؤبة:

كيما ترى أهل العراق أنني/‏ أوطنتُ أرضاً لم تكن من وطني

وما زال التعبير العامي بـ«الوطن» يخص ذلك المعنى في انحصاره، ويعبِّر عنه الأهلون في بعض مناطق المملكة والعالم العربي بـ«البلاد»، ولها دلالة تخصيص ملحوظة على المزارع والمسكن، على نحو ما نسمع -مثلا- عند أهلنا في جنوب المملكة.

ونستعمل لفظ «الدِّيرة» في معنى المنطقة التي ينتسب إليها الشخص، فهي مكان سُكنى أهله وجماعته وذوي قرباه؛ نقول: «سافر فلان -أو عاد- من الرياض إلى الدِّيرة» أي إلى بلدته أو منطقته، وهي مستعملة عاميا في منطقة الخليج في معنى يشمل الجغرافيا والمجتمع المحلي المتألف من الدولة.

كان الوطن بالمعنى السياسي، أي بمعنى الدولة التي يتأسس بها وجود اجتماعي في التاريخ، حاضرا في التاريخ العربي الإسلامي القديم، من دون اسم الوطن، في الولاءات والانتماءات إلى القبائل وإلى الدول وإلى أشكال الوجود السياسي المذهبي والحزبي المتصارع.

والمادة النصوصية التراثية، في الشعر والخطب والرسائل والمؤلفات التاريخية والأدبية، تفصح عن معنى الوطن من حيث هو سلطة تحضن وجودا اجتماعيا وتشكِّله بما يتوافر لها من أسباب الغلبة والتناصر.

وهي مادة يمكن أن تُصنَّف في باب «العصبية» بالمعنى الإيجابي الذي يستخدمه ابن خلدون في وصف القوة الاجتماعية الطبيعية في كل المجتمعات البشرية الفاعلة للولاء والتحالف والمكونة للرابطة الاجتماعية، وبالمعنى السلبي -أيضا- للعصبية القبلية وما يشبهها القائم على توهُّم رابطة النسب.

ويمكن أن تُصنَّف تلك المادة كذلك في باب الدعاية السياسية، ولكنها -على أي حال- مادة لتأمل ما نعنيه حديثاً بدلالة الوطن من حيث هو رغبة دفينة إنسانيا في الانتظام الاجتماعي الذي تتحقق به السكنى والألفة والمعيشة والانتماء، ويتيح -بما يحقِّقه للمجتمع المنتظم في سلكه من أمن وعدل- الحريةَ والطموح والنماء.

وقراءة الشعر والخُطب والمؤلفات التاريخية في تراثنا، ترينا ذلك من خلال ما يحتشد فيها من توتر واصطراع، سواء من جهة الإجلال للقوة السياسية، قوة السلطة وحنكتها ونفوذها، والحديث غالبا من موقع ولاء سياسي لوجهة، أو من جهة الحديث عن التاريخ بوصفه دولاً تسقط وأخرى تنهض، وقوى تنتصر وأخرى تنهزم، وبين هذه الوجهة وتلك ما تسطّره تلك المادة الثقافية من حياة مؤتلفة مع مكانها وزمانها، وأخرى مغتربة تعاني الجفاء والتوحش أو تدوسها أقدام المصطرعين على الامتلاك للزمن.

لم تكن قوة السلطة التي تَحقَّق بها الوجود الاجتماعي السياسي، في مراحل التاريخ الإسلامي، قوة دينية خالصة، وإن كانت الدعوة الدينية، فيما يعلمنا ابن خلدون، مرتكزاً لنشأة الدول. لقد كان إلى جوارها وفي المقدمة منها، سلطة دنيوية وطبيعية، هي «العصبية» فيما يعلمنا -كذلك- ابن خلدون.

هذه العصبية لا تعني المعنى الجاهلي المنتن للعصبية، فابن خلدون يهزأ بدعوى النسب، ويعدُّ الاشتغال به من اللهو، ويقول: «ومن هذا الاعتبار معنى قولهم: النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر». ويصف النسب بأنه: «أمر وهمي لا حقيقة له» و«الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء الموطن»... الخ.

هكذا تصبح العصبية لدى ابن خلدون معنى خالصا لما نسميه اليوم «الوطنية» أو القومية (الدولة-الأمة)، المعنى الذي لا يعرفه عديد الباحثين إلا في انحداره إلينا من أوروبا القرن التاسع عشر، القرن الذي انتشرت فيه الأفكار القومية الأوروبية بصورة ألهبت المشاعر وأعطت قدسية لفكرة «الوطن» بالمعنى القُطري.

ولكنها في الحقيقة أحد مكتشفات فكر ابن خلدون التي تأخذ شمولا وكلِّية بنيوية في وصف السلطة والدولة والحكم في المجتمعات الإنسانية قديمها وحديثها على حد سواء، حتى لتشمل العصبية بالمعنى الذي أراده تلك الدول المتعددة الإثنيات، وتشمل الدعوة الدينية، الإيديولوجيا والمبادئ العليا للحق والحرية والجمال، وما يتفرع عنها من أخلاقيات ضابطة للغرائز.

ولم يقف كشفُ ابن خلدون عند هذا الحد؛ فمجمل ما يصعد لديه بالدول وما يؤذن بانهيارها، قوي الصلة بما مَضَى إليه الفكر السياسي والاجتماعي الحديث، في شأن دَسْترة الدولة ومأسستها وعَقْدها الاجتماعي، ودعوة ضمنية منه للبحث عما يقويها ويمد في عمرها ويصونها من الانهيار.

والمهم من هذا النظر العقلي الثاقب لدى ابن خلدون هو التبرير للوطنية بالمعنى القُطْري للدولة، على النحو الغالب في عالمنا اليوم، وذلك ضد الأممية والإيديولوجيات الشمولية التي تفرض الوحدة على المختلف... فالدعوة الدينية للخلافة، أي إخضاع المسلمين في العالم لحاكم واحد، وهي ما يراه المؤدلجون الدينيون من صميم الدين، لا يمكن قيامها بالدين لوحده، بل لا بد من العصبية أي من لُحمة وولاء وتناصر بمعان دنيوية خالصة (يورد ابن خلدون في هذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه).

ولهذا كانت الخلافة مرة عربية وأخرى فارسية وثالثة تركية، وإذا حزن أولئك المؤدلجون على انهيار الخلافة الإسلامية، بعد سقوط الدولة العثمانية، فلم يسقط في الحقيقة شيء من الإسلام بل انتهت السلطة التركية العثمانية باسمه.

والأمر كذلك للعروبيين الذين يرون في الدولة العربية القُطرية تفتيتا للوحدة العربية...

لقد ثبت وفق المنطق الخلدوني، وبالتجربة التاريخية (الوحدة الأوروبية شاهدها) أن التعزيز للوحدة الوطنية القطرية، لا يضاد الإسلام والعروبة بل يعززهما ويتكامل معهما، وأنه اللبنة التي تُبنى عليها أي وحدة بالمعنى «العملي» وليس بالأحلام والتصورات الإيديولوجية الزائفة والمزيفة لوعينا بالواقع.