ما يجب أن يؤخذ في الحسبان حين نفكر في التعليم أنه ليس عملية متكررة من الأسئلة والأجوبة، بل أقرب من ذلك وربما أعمق، إن التعليم محبة بل أكثر من ذلك وأعمق؛ إنه عشق، أن تحب الطلبة، كل الطلبة، حتى أصحاب الحالات الصعبة والمعقدة، لأنهم بشر يمكن أن تتواصل معهم وتصل إليهم، يمكن أن تحرك شيئا بداخلهم لتصل للحظة الدهشة أو الاكتشاف وتذوق رحيق المعرفة، تلك اللحظات هي مكافأة المعلم وليست راتبا في نهاية الشهر أو ارتقاء في السلم الوظيفي! نعم الطلبة هم المكافأة، ومن يتعامل مع التعليم بغير محبة أو عشق يتسبب في إضاعة وقت الطلبة ووقته!
أذكر أنه عند نهاية أول يوم لي في مهنة التدريس قلت في نفسي: «يا سلام هذا سهل»، لكن لم يدم ذلك طويلا فمع نهاية أول أسبوع عرفت كم أن الأمر كان بحاجة لمجهود وتعب وصبر؛ من إلقاء وتصحيح ومتابعة إلى كتابة التقارير، من تحضير أسبوعي إلى شهري إلى فصلي، حينها تنظر إلى الراتب وتستغرب هل كل هذا الضغط يستحق هذا المبلغ البسيط؟! ولكن أحيانا كثيرة غيرها كنت أندهش فعلا ولا أصدق بأنني أستلم راتبا على ما أقوم به؛ أقابل وجوها جديدة أتعلم منها وأنمو معها، نتحاور عن الكتب والأفكار والأحداث، ما الجديد وما القديم، ما الواقع وما الخيال، ما الحقائق، والأهم كيف نتأكد أنها فعلا حقائق وليست مجرد آراء وتوجهات! كنت وما زلت أفضل أن أقيّم الطالبات بناء على ما قدمنه خلال الفصل الدراسي ونسبة التقدم الذي حدث لهن، ويزعجني أن أتقيد بمجموعة من الاختبارات، خاصة الموحدة، والتي لا تأخذ في الحسبان كل مجهود الطالبة خلال الترم، لأن التقويم، برأيي على الأقل، ليس درجات، أو مواد، أو أنشطة أو فعاليات، التقويم هو أحرف الأبجدية التي متى ما صفت بترتيب إبداعي معين تخرج لنا بأفضل ما هنالك من نتاج العالم من أفكار وأعمال، هذا ما يجب أن نركز عليه وليس مجموعة من الإجابات تم مسبقا تدريب الطلبة عليها! حقا أين الإبداع في ارتداد المعرفة؟! الإبداع يكمن في حث الطلبة على خلق الجديد وليس إعادة تدوير القديم! ولهذا كان إعجابي بما يسمى المدارس المستقلة «Charter Schools» عند بداية ظهورها في الولايات المتحدة الأميركية بدعم من الشركات الخاصة والشخصيات البارزة مثل بيل جيتس وغيره من أصحاب الثروات الضخمة، لقد كانت عبارة عن تجارب واعدة لمربين وأخصائيين يقدمون آخر ما توصلوا إليه من خبرات في استقلالية وحرية تحرك من بناء المنهاج إلى الاستراتيجيات الحديثة في التدريس، هذا الإعجاب كان قبل أن تتحول تلك المدارس إلى تجارة وتُسلم إلى شركات تدار من قبل إداريين ليس لهم في التعليم أي اهتمام، هدفها الأول الربح وليس الطالب أو المعلم!
تحدثت يوما في مقالة سابقة عن إعطاء فرص للتجارب الفردية للمربين من خلال دعم برامجهم في مدارس تقدمية مستقلة، بحيث يقدم لهم الدعم ومن تكون نتائجه قيمة من حيث الارتقاء بالطلبة، خاصة من يعانون من مشاكل تعليمية، تعمم على المدارس الأخرى كنموذج ناجح، لا يفرض بل يقدم كمقترح ويترك للمعلم حرية الاختيار أو بناء طرق وأساليب تخص نوعية ما لديه من طلبة، وكنت أظن بعد الاطلاع على التقارير الحديثة حينها عن المدارس المستقلة أنها الإجابة عن مشاكل مدارس التعليم العام الحكومي، لكن ما ظهر مؤخرا على الساحة من نقاشات وانتقاد حاد من الكثير من الأهالي والهيئة التعليمية، حتى الطلبة، إضافة إلى بعض النتائج التي تناولت نسب النجاح مقارنة بنسب التسرب أو الخروج من هذه النوعية من المدارس، اتضح لي بأنها لم تبق كما خطط لها في البداية؛ كدعم يساعد التعليم العام الحكومي من خلال توفير تجارب ناجحة يمكن مجاراتها وتطبيقها، بل بدأت في التحول إلى مدارس تجارية تنافس المدارس الحكومية على المباني والدعم المالي الحكومي، مما تسبب في إغلاق الكثير منها، بل إن الكثير من هيئة التعليم بدأ يغير مسار مهنته ليس لفقدان ذاك العشق الذي بداخله، بل نتيجة الإحباط من عدم التمكن من مواجهة تحديات ما ترميه تلك المدارس عليهم من طلبة لا تقبلهم وتعتبرهم تحديا وهدرا للمجهود ومؤثرا سلبيا على نتائج التعليم الذي تحاسب عليه لتحصيل الدعم المادي من الدولة!
حين يشعر المعلم أنه في موقف تنافسي يحاسب فيه بنفس المعايير التي يحاسب بها معلم في مدرسة يقدم لها الدعم والمصادر والبنية التحتية الحديثة، حين يجد أن تلك المدارس تختار الأفضل من التعليم العام الحكومي وتترك المتعثرين لهم، حين تكون الفصول الدراسية تستوعب أعدادا نموذجية عندهم وعنده تكدس داخل الصف بلا مصادر كافية أو بيئة تساعد على تنفيذ برامج التدخل والمساندة للمتعثرين، عندما يجد أن صوته لم يعد يحسب أو يقدر، بل ما ينظر له هو نتائج الاختبارات الموحدة للحكم عليه وعلى المدرسة التي يعمل بها، عندها إما أن يترك أو يواجه هذا التغير! فحسب وجهة نظره والكثير غيره بدلا من خصخصة التعليم العام لما لا يتم صرف تلك المبالغ على الارتقاء بها وبهذا تكون الفرص متساوية للجميع وليس فقط للبعض الذي يقع عليه الاختيار، لأنه متى ما تحول التعليم إلى تجارة والطلبة إلى بضاعة في بيئة ما يسمى المحاسبة والتنافسية، سيتحول التركيز على الأقوياء القادرين، أما البقية فسيرفضون لينضموا للفصول المكدسة؛ فالمهم هنا أن تظهر الإحصاءات المستوى العالي، وبالتالي لا يسمح لأي شيء أن يؤثر على ذلك حتى لو كان طالب باحتياجات خاصة يحق له كما يحق لغيره كل الفرص التي تقدم لغيره من أفضل ما يوجد من تعليم!
إن أردنا التحدث أو التفكير في تطبيق خصخصة التعليم العام الحكومي، لنأخذ في الحسبان الإحصاءات التي يقدمها أصحاب الرأي الآخر من المجتمع الذي تبنى مسبقا هذا التوجه، وبعد دراسة الأمر دارسة شاملة، نستطيع أن نقرر ما إذا كان هذا التوجه في مصلحة الجميع أم شريحة معينة، الطالب هو الهدف والمركز هو المعلم، وأي شيء يؤثر سلبيا على أي منهما يجب التوقف عنده وإعادة الدراسة، قد لا نلغي ولكن على الأقل نستطيع أن نعطي فرصة لاستخراج الأفضل من التجربة قبل استخدامها والخوض في نفس التحديات التي يواجهها المجتمع الذي بدأ بها.