في اليوم الوطني يحتفل كافة الشعب السعودي بهذا الوطن الكبير. هذا الوطن الذي جمع كل الاختلافات الفكرية والاجتماعية والمناطق والأقاليم والعشائر والعادات والتصورات التي جعلت من التفاصيل المختلفة في السعودية تفاصيل وطنية متجذرة في نفوس الشعب السعودي.

هذا الشعب الذي يخرج ليحتفل بيومه الوطني من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، ومن أقصى غربه إلى أقصى شرقه في حالة وطنية واحدة، وما تلك المشاركة الشعبية الكبيرة في الاحتفالات إلا شاهد من شواهد عمق الفكرة الوطنية في نفوس الشعب، فصار اليوم الوطني احتفالية شعبية في غالب البيوت السعودية، ولذلك فمن المهم العمل أكثر في تجذير هذه المواطنة أكثر وأكثر في نفوس أبناء هذا الوطن، لأن مبدأ المواطنة من المبادئ المهمة في تلاحم المجتمعات فيما بين بعضها البعض، أو فيما بينها وبين الممثلين للسلطة فيها، والعمل على تكريس المواطنة هو المواطنة الحقيقية في رأيي، ومحاولة تأصيل مبدأ المواطنة تقوم على إعادة الرؤية في الكثير من القضايا الفكرية والسياسية والإشكالات التي يطرحها مبدأ المواطنة. من هنا يصبح العمل الحقيقي هو في تبني مشروع كامل وطموح من قبل النخب الفكرية والسياسية. ليس على مستوى التنظير؛ بل وعلى مستوى العمل التطبيقي الجاد في تحقيق المواطنة والوحدة الوطنية.

الاختلافات في المجتمع السعودي تكاد لا تكون كبيرة إلى الحد الذي نجده في بعض الدول الأخرى. إذ يشكل الأكراد قومية خاصة في العراق مثلاً أو الأمازيغ في شمال دول المغرب العربي، في حين أن المجتمع السعودي تتلاشى مثل هذه الفوارق الكبيرة لديه. صحيح أن هناك اختلافات من النوعية المذهبية أو العشائرية؛ لكنها تبقى في إطار المقبول من الاختلافات مقارنة بغيرها، بحيث تصبح تعددية منتجة باعتبار أن الاختلاف سنة كونية وبشرية طبيعية ولا يمكن نفيها.

وتأتي أهمية العمل على مبدأ المواطنة باعتبار أن المواطنة أحد أركان الإصلاح في أي مشروع سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو حتى ديني، كون الهدف من عملية الإصلاح هو تحقيق الصالح العام للوطن والمواطن، وبتجذير مبدأ المواطنة يمكن تحقيق هذا الصالح العام، ثم إنه لا تتم عملية الإصلاح من غير إعادة النظر والاعتبار في مفهوم المواطنة، ومدى تحقيقها وتحققها من أجل عيش مشترك بين أبناء الوطن مهما كانت الاختلافات، ولذلك فإن من المهم العمل على تجذير مفهوم المواطنة في كافة الخطابات الفكرية وفي كافة التيارات المختلفة، وفي كل المجالات والمؤسسات الوطنية، إذ لا يمكن أن تتجذر المواطنة إلا على إحقاق كافة الحقوق للمواطن باعتباره مشاركاً في الكيان الوطني، وتوسيع دائرة المشاركة ، وتأصيل بذرة المواطنة من خلال العمل على إعادة الاعتبار للمواطن إحقاقا لفكرة المساواة والمشاركة الفاعلة مع طرح كافة الإشكاليات التي يطرحها مفهوم المواطنة من غير تجاهلها بعذر عدم تأثيرها في الوحدة الوطنية، بل يجب طرحها ومحاولة تجاوزها والتعالي عليها.

إن طرح مبدأ المواطنة بالمفهوم القانوني والحقوقي يجعل من مبدأ المواطنة مبدأ ضرورياً للعمل على وحدة وطنية متكاملة في ظل التحديات التي تمر على العالم العربي، وهذا ما يجعل تجذير مبدأ المواطنة فكرة مطروحة وبشدة كنوع من التلاحم الوطني في صد الهجمات العديدة، كما لا يخفى مدى عمق الخلل في بعض الكيانات السياسية العربية التي حصلت فيها الحروب الأهلية في اللحمة الوطنية مما يهدد الكيان الوطني كاملاً، لذا وجب التأسيس نظرياً على الأقل قبل الفعل السياسي للعمل على مبدأ المواطنة بكافة تمظهراته الفعلية والتأكيد على حضور المجتمع المدني في الكيانات الوطنية.

إن حاجتنا العملية حتى في احتفالات اليوم الوطني على تجذير مبدأ المواطنة تفرض علينا جميعاً العمل على تأصيل هذا المفهوم فكراً وممارسة على كافة الأصعدة، يكون فيها المواطن هو الهدف الأول في عملية الإصلاح وتحقيق مبدأ المواطنة، لأن المواطن بكافة أشكاله: النخبوية والجماهيرية هو العامل الحقيقي في تحقيق مبدأ المواطنة في المجتمع.

ويمكن البدء في هذا المشروع من خلال طرحه في كافة الأنشطة الثقافية والمنابر الوطنية ومحاولة تأصيله من خلال النخب الفكرية تأصيلاً يأخذ باعتبارات الواقع، كما يمكن طرحه عن طريق التربية، كأن تُطرح مفاهيم المواطنة أو مبادئ حقوق الإنسان في مناهج التربية الوطنية مثلاً، أو نشر مواثيق حقوق الطفل أو حقوق المواطن وواجباته بدلاً من المواضيع التي تتكدس بها مناهج التربية الوطنية دون تحقيق الهدف الأساسي من وجود مثل هذا المنهج.

كما يأتي الإعلام أيضا بكافة منابره، المرئية والمسموعة والمقروءة ومواقع التواصل الاجتماعي، كأحد الوسائل المهمة لتجذير مفهوم المواطنة ومبادئها العامة، من خلال تكثيف العمل على البرامج ذات الهدف الوطني وليس اجترار الأغاني الوطنية كما كان في السابق فقط؛ بل العمل الجاد والحقيقي لتكريس هذه المواطنة؛ تكون حقوق الإنسان على رأسها.

قد تكون في هذا العمل بساطة كبيرة على المستوى النظري. لكنه في غاية الصعوبة فيما لو أردنا تطبيق ذلك على أرض الواقع؛ إذ إن الكثير من الإشكاليات التي يطرحها مبدأ المواطنة هي إشكاليات عميقة، وقد تكون غريبة كثيراً على الفهم العام لمفهوم المواطنة، من قبيل التعالي على الإشكاليات العشائرية والمذهبية، أو إشكالية ثنائية: الدين والدولة وغيرها. لكن يفترض علينا العمل الحقيقي أن نطرح هذه الإشكاليات من دون مواربة حتى لو اصطدمنا بالذهنيات التي لا تستطيع أن تتجاوز مثل هذه الإشكاليات.