تحل علينا في هذه الأيام مناسبة عزيزة على نفوسنا، طيبة على قلوبنا، بها تحتفل البلاد من أدناها إلى أقصاها، ويفرح بها الصغار قبل الكبار، تلك هي مناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، الذي يدخل عامه السابع والثمانين. ولا أملك في هذه المناسبة إلا التوجه إلى الباري جلّ وعلا بالحمد والثناء، على أن منّ على هذه البلاد بنعمة الأمن والأمان والاستقرار والخير والنماء والتطور والازدهار، عبر هذه العقود التسعة المتتالية من عمر المملكة العربية السعودية. فما ننتقل ــ ولله الحمد ــ من حسن إلا إلى أحسن. نسأل الله العلي القدير الديمومة والبقاء والارتقاء المستمر لهذا الوطن المعطاء، وشعبه الكريم، وقيادته الرشيدة.

فحينما تحل علينا مناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية لا ينبغي لها أن تمر دون أن نستذكر أن هذه القارة الواسعة التي نسميها المملكة العربية السعودية كانت في سنين مضت كطاولة الزهر، أشتات من الدول والمشيخات الصغيرة والكبيرة، والبلدان والقرى المتحاربة المتناحرة التي لا يجمع بينها رابط، ولا يوحدِها هدف ولا غاية، بل هي شتات متنافر متحارب إلى أن سخر الله لها ذلك الرجل الشجاع المحتسب الصبور الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل (رحمه الله)، وَزَرَع حبه، وحب ما يدعو إليه في نفوس القبائل والعشائر في طول البلاد وعرضها، فانضمت إليه طائعة مختارة، وأعانته، ووقفت بجانبه، وسخرت له جميع الإمكانات المادية والمعنوية، وضحت من أجله، ومن أجل ما يدعو إليه من أهداف سامية بالنفس والنفيس، فكانت تلك الانطلاقة التي نتج عنها تلك الوحدة العظيمة التي لم تشهد الجزيرة العربية نظيراً لها عبر تاريخها الطويل، فساد الأمن والنظام في مختلف ربوع تلك البلاد الشاسعة، وقُضي فيها على الجهل والمرض، وعلى كثير من مظاهر العصبية القبلية التي كانت سائدة في مجتمعاتها؛ فاقتربت النفوس من بعضها بعضاً، وتوحدت القلوب قبل الأبدان، واختفت العصبية القبلية، ومظاهر الحروب والاقتتال، وساد الاحتكام فيها إلى شريعة الله السمحة، وتيسرت أمور السفر والانتقال والاختلاط والتجاور والتزاوج والامتزاج بين أبناء الوطن، بسب توفر وسائل المواصلات، وأمن الطرق، وانتشار التعليم، وسهولة الهجرة، والانتقال من القرى والأرياف والبوادي إلى المدن، وحَدَث انصهار كبير في بوتقة واحدة لجميع مكونات شعب المملكة العربية السعودية، وتوحدت مآكلهم ومشاربهم وملابسهم ورقصاتهم، ومختلف عاداتهم وتقاليدهم، واختفت لهجاتهم المحلية التي كانت عَصِيَة على الفهم على بعضهم بعضاً لتحل محلها لغة سهلة دارجة بفضل التعليم والاتصال يفهمها الجميع، هي لغة الإعلام التي أصبح يتحدث بها النجدي في نجده، والحجازي في حجازه، والجازاني في جازانه، وابن المنطقة الشرقية في منطقته، ومثل ذلك في كل منطقة من مناطق المملكة، فالجميع يتحدث هذه اللغة التي أصبحت علماً على كل أبناء الوطن، وشاهداً على وحدتهم واندماجهم.

بعد هذا كله وأكثر، يبرز السؤال التالي: كيف يمكننا المحافظة على وحدتنا الوطنية، وعلى تعزيزها وترسيخها، وتقوية لحمتنا الوطنية، التي هي أساس في ترسيخ تلك الوحدة وتقويتها؟ والإجابة على هذا السؤال ببساطة متناهية، وبسهولة ويسر، هو أن كل تلك المثل قابلة للتحقيق على أرض الواقع، وإنما بالتربية والقدوة الحسنة؛ فالتربية تبدأ بالبيت من سن الطفولة التي يتعين فيها على الآباء تعزيز انتماء أطفالهم إلى ذلك الوطن الكبير الذي يسعهم، ويسع أترابهم من مختلف مناطق المملكة مهما تباعدت المسافات فيما بينهم، تم يأتي دور التعليم في المدارس والجامعات والعلاقات الإنسانية على مستوى المجتمع. وهذا الانتماء إلى الوطن الكبير ينبغي أن يكون مقدماً على تلك البقع الصغيرة الضيقة التي يولد فيها صغارنا، وينشؤون على ترابها، أو تلك القبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو المكون الذي ينتمون إليه، فالواحد منا ينبغي أن يشعر بأنه سعودي قبل أن يكون حربيا أو عتيبيا أو مطيريا أو قحطانيا أو عدنانيا، أو من أي مكوِن أو فئة يكون منتميا إليها.

ومن حسن حظنا أننا أبناء دين واحد هو الإسلام الذي لا يخالطه أي دين آخر في هذه البلاد ــ ولله الحمد ــ قبل أن يكون الواحد منا سنيا أو شيعيا أو إسماعيليا أو زيديا أو صوفيا، فجنسيتنا السعودية، وانتماؤنا إلى الوطن السعودي الكبير مقدم على كل انتماء. هذا هو الهدف السامي الذي ينبغي أن نترسمه في حياتنا، والوعي الجمعي الجدير بأن يسود مجتمعنا وثقافتنا وعلاقتنا مع بعضنا بعضاً. لكل ذلك، ينبغي أن تُعْطى مناسبة اليوم الوطني حقها من الاهتمام والابتهاج، واستذكار تاريخ الوطن، والتضحيات التي بذلت من أجل توحيده، وأهمية المحافظة على وحدته، ونبذ العنصرية والطائفية والإقليمية، والتعصب القبلي والمذهبي، والتشكيك في معتقدات أبناء الوطن الواحد. فكل من هو على تراب هذا الوطن ممن يحمل جنسيته مواطن سعودي حر له جميع حقوق المواطنة مهما اختلفت أصولهم وانتماءاتهم القبلية والفئوية والمناطقية ومذاهبهم الإسلامية.

وينبغي أن يكف المبدِّعُوْن الذين ما إن تحل مناسبة اليوم الوطني إلا ويتبادرون بإطلاق فتاواهم بأنها بِدْعَة، وأنها ليست من الدين في شيء، ويقلِّلون منها، وينالون من المتحمسين لها، والقائمين عليها، وليعلم أولئك المبَدِّعُوْن أن الاحتفاء باليوم الوطني ليس مناسبة دينية تقام فيها شعائر دينية، وإنما هي مناسبة وطنية يُكرس فيها حب الوطن، والانتماء إلى ترابه، ويُغرس في نفوس الأجيال الحرص على وحدته وأمنه واستقراره ورخاء أهله.