مرة أخرى، الداغستاني العجيب، رسول حمزاتوف، وفي روايته الآسرة «بلدي داغستان»، قال عبارته الخالدة: «هذه أرض ليس بها أغنيات، فلنتجاوزها»، معه حق، كل الحق. ونحن بالتالي لا نريد أن نتجاوز أرضنا، لا سيما والمجتمع يستعيد عافيته وسويته، في السنتين الأخيرتين، وشبابنا وبناتنا يتفتحون كالورد على حب الحياة واللحاق بالمعنى، المئات في كل مدينة يخبئون أحلامهم ومواهبهم وقدراتهم خلف الجدران. أين يذهبون وإلى من!
حسنا، هذا هو الوقت، حتى ولو تأخر، لتشييد أكاديميات الفنون، ومعاهد الموسيقى المختصة، هذا استثمار هائل وتنمية حقيقية. من الهدر الواضح، ومن الإجحاف أن تكون لدينا كل هذه الذخيرة من الشباب المتطلع والموهوب، ثم لا يجدون المكان ولا الفرصة. هل يجب أن نعود للحديث عن قيمة الموسيقى، ومجالها العلمي، وأثرها ومكانتها، أليست «أسمى فلسفة»! في الأيام الماضية تقدم الفنان العراقي الشهير نصير شمة لجامعة القاهرة ببحث في الماجستير في «الأسلوبية الموسيقية»، وماذا حدث؟ مصر السنباطي وزكريا أحمد والشيخ إمام وسيد مكاوي وبليغ حمدي ومحمد الموجي، وأم كلثوم وعبدالحليم ونجاة.. إلخ، رأت عبر جامعتها أن تمنحه الدكتوراه فورا، نظير بحثه الباهر، وتاريخه الفني المحترم، حسب وصف لجنة المناقشة. إنها أرض لن يتجاوزها حمزاتوف.
أتحدث عن جدة، حيث أقيم، وحيث ألتقي بالشباب، وخذوا عشرات الأسماء المدهشة، تعلموا وعلموا أنفسهم بمجهوداتهم الشخصية، وبإمكاناتهم البسيطة يقبضون على فنونهم، دونما آمال، اسمعوا مثلا لهؤلاء الشباب، من بين مئات يملؤون اليوتيوب، ومقاطع تويتر، والإنستجرام، والفيسبوك: مروة سالم، الصوت البديع والعذب، ولها تجارب غنية في الإعلام والدراما. وليد الجنيد، وهو فنان مكتمل ومدهش بمعنى الكلمة، فيصل العمري المكافح بفنه منذ سنوات، ومحمد نهار، المطرب والملحن الرائع.. وغيرهم.
في الرياض والقصيم كثيرون، في الدمام والخبر والأحساء والشرقية كثيرون، في أبها والباحة وجيزان ونجران والجنوب كثيرون، في تبوك والجوف والشمال كثيرون. أين المعاهد إذاً! وماذا عن الفنون الأخرى؟ أين الأكاديميات!
صاحب العقد الفريد، الأديب والفقيه ابن عبدربه الأندلسي، قال: «قد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق، من اصطناع المعروف، وصلة الأرحام، والذب عن الأعراض، والتجاوز عن الذنوب».
ولا بد من قول هذا؛ إن إحدى أكبر الذبحات التي قد تصيب شعبا في قلبه، هي هجرة مواهب أبنائه، أن يبحثوا عن أحلامهم ومستقبلهم على ضفة أخرى، وأن يقيموا حقولهم بجوار نهر آخر. هذه بلدة جميلة، وأبناؤها يستحقون، ولدينا عهد جديد، وآمال كبرى.