أواخر الأسبوع الماضي نشرت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية خبرا يفيد بأن المملكة تخطط لإقامة مراكز للعلاقات العامة والإعلام في عدد من العواصم الأوروبية والآسيوية البارزة، تشمل لندن، وباريس، وموسكو، ومومباي، وبكين، وغيرها من عواصم الدول الكبرى، بهدف إبراز الصورة الحقيقية للمملكة، والتصدي لمحاولات تشويه صورتها، وأكدت الصحيفة أن تلك المكاتب ستبدأ عملها أوائل العام المقبل، وأنه سيتم خلال السنوات التالية التوسع في افتتاح مكاتب مماثلة في دول أخرى. وإذا صحت تلك الأخبار فإننا نكون قد وضعنا أقدامنا على أول الطريق الصحيح، لأن المملكة ستكون قد انتقلت من مرحلة رد الفعل إلى الفعل، ولن تكتفي بالرد على أصحاب الأقلام المغرضة، بل ستبادر إلى التعبير عن نفسها وإيضاح صورتها النقية.
خلال السنوات الطويلة الماضية كنا في موقف المتفرج، وظللنا في انتظار أن يتطاول علينا متطاول، حتى نقوم بالرد عليه، وهي ردود للأسف لم تخل من روح التشنج، وبحت الأصوات التي كانت تطالب بضرورة تغيير هذا الوضع، واستلام زمام المبادرة، وتكثيف نشر المواد الإعلامية في وسائل الإعلام الغربية، على أن تراعى في ذلك عدة عناصر، في مقدمتها أن تكون مكتوبة بلغة سليمة، وأن تراعي أذواق المتلقين، وأن لا تسرف في أساليب الإطناب والإشادة، بل تقدم المعلومة بشكل مبسّط ومباشر، دون إطالة، مدعمة بالوثائق والبراهين.
ومع التسليم بقوة إعلامنا الداخلي الناطق باللغة العربية، في كافة الوسائل المرئية والمقروءة والمسموعة، وفعالية تأثيره، إلا أنه من المهم أن يكون الصوت الخارجي بذات القوة، إن لم يكن أكثر تأثيرا، ذلك أنه يتوجه إلى المتلقين في دول كبرى، ويخاطب صنَّاع القرار في تلك الدول، وبالتالي يستطيع تغيير الصورة النمطية السالبة التي رسخت في أذهان كثيرين بسبب غيابنا الإعلامي عن تلك المنابر. فخلال العقود المنصرمة أنفقنا مليارات الريالات ونحن نتوسع في إنشاء وسائل إعلامية متعددة تتحدث بنفس لغتنا، ورغم أهميتها إلا أن الأولوية ينبغي أن توجه لإنشاء وسائل ناطقة بغير اللغة العربية، وتطوير الموجود منها، ورغم وجود صحف معدودة تصدر باللغة الإنجليزية، إلا أن المؤسف أنها تناقش قضايانا المحلية، ولا تخاطب الآخر، لذلك ظلت الفائدة منها محدودة.
ومع تكرار الهجوم الذي تشنه وسائل إعلام مشبوهة معروفة في الغرب، ضد المملكة العربية السعودية، بذرائع متعددة أبرزها اضطهاد النساء، وانتهاك حقوق الإنسان، والتي تترافق مع التقارير المغرضة التي تصدرها بعض المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، وتأثيرات اللوبي الإيراني في عدد من الدول الغربية، تزايدت دعوات عدد من الأكاديميين والإعلاميين لضرورة إنشاء مراكز إعلامية في تلك الدول، تتولى الرد على تلك المزاعم وتفنيدها، وتقديم الصورة الحقيقية للمملكة، مشيرين إلى أن الصوت السعودي غائب في تلك الدول، مما أتاح الفرصة للصوت المعاكس كي يروج لمزاعمه، وهو ما سبق أن طالبنا به مرارا في مقالات سابقة.
ومع عدم وضوح الصورة الكافية عن تلك المكاتب، وماهية الجهات التي تتبع لها، وآليات عملها، إلا أنه من الضرورة إذا أردنا لها أن تنجح في أداء المهمة الموكلة إليها، وأن لا تتحول إلى مجرد مؤسسة حكومية تعج بالموظفين ويسيطر عليها الروتين، أن يوكل أمرها إلى خبراء في المجال الإعلامي، وأن تكون لها خطة واضحة معدة مسبقا ومتفق على تفاصيلها، تشمل تكوين شبكة من العلاقات الاجتماعية مع نافذين في الدول المعنية، على كافة المستويات، الإعلامية والاقتصادية والدبلوماسية، وتنويع أساليب العمل بين إقامة ندوات وسمنارات وحلقات نقاش، وبث مواد إعلامية في الصحف والمجلات، وإنشاء وإدارة مواقع على شبكة الإنترنت، وغير ذلك من أساليب العلاقات العامة، مثل توجيه الدعوات للشخصيات المؤثرة على الصعيد الإعلامي لزيارة المملكة، وترتيب لقاءات تجمعها بمسؤولين، وإتاحة الفرصة أمامها للتجول بحرية في المملكة، والتعرف إلى كافة شرائح المجتمع، حتى يكون تغيير الصورة النمطية في الأذهان عن قناعة تامة.
ولا ينبغي إغفال أهمية مواقع التواصل الاجتماعي، والدور الكبير الذي يمكن أن تقوم به في هذا المجال، فتغريدة واحدة على موقع تويتر، تصدر بلغة رصينة ومنطق مقبول ودليل ساطع، يمكن أن تكفي لإيصال الرسالة، وتكون أوقع أثرا من إصدار مجلة كاملة، لأن وسائل التواصل الاجتماعي تمتاز بالسرعة الفائقة والقدرة على الوصول للفئات المستهدفة في لمح البصر، لذلك فإن المسؤولين عن إدارة تلك المكاتب ينبغي عليهم الاهتمام بالتواصل مع المشاهير في الدول المستهدفة، ولا أرى بأسا من التعامل مع بعض أصحاب الحسابات التي تمتاز بكثرة المتابعين، والاستفادة من شعبيتهم، طالما أن الهدف سام والوسيلة نبيلة. ومع التسليم كذلك بوجود كفاءات سعودية متمرسة في مجالات الإعلام والترجمة، ممن يمكن أن يقوموا بتلك المهمة على الوجه الأمثل، إلا أنه لا بأس من الاستعانة بآخرين من جنسيات أخرى، ما دام ذلك يؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود، وسيكون من الأفضل أن يكونوا من أبناء نفس البلدان التي توجد بها تلك المكاتب، لأنهم سيكونون أكثر جدوى في تكوين شبكة العلاقات العامة مع الشخصيات المستهدفة.
ختاما ينبغي إيضاح أن المهمة الملقاة على عاتق المكلفين بإدارة تلك المكاتب لن تكون سهلة ميسورة، بل شاقة ومرهقة، فهي أشبه ما تكون بسفارات ومؤسسات دبلوماسية، لذلك ينبغي توفير كافة المعينات التي تسهم في تحقيق الهدف المنشود، ومع ذلك فإن هناك عددا من الأدوات التي يمكن أن تسهم في تيسير المهمة، إذا ما عرفوا كيفية استغلالها وتطويعها، وفي مقدمتها المكانة الكبيرة التي تتمتع بها بلادنا، واحتضانها الحرمين الشريفين، والخدمات التي تقدمها لضيوف الرحمن، وإسهاماتنا ومبادراتنا الخيرة ووقوفنا مع الآخرين، ومبادرتنا بابتدار الحوار مع أتباع الأديان، والانتصارات الكبيرة التي حققتها أجهزتنا الأمنية على القوى الإرهابية، إلى غير ذلك من الإيجابيات التي استطعنا تحقيقها خلال الفترة الماضية، وإذا كانت الصورة الناصعة لبلادنا قد علقت بها بعض الأتربة فإن المهمة تتركز في إزالة الغبار وتقديم الصورة الحقيقية.