لدينا ثقافة راسخة وموروثة في كفاح الآباء لبناء مساكن خاصة لهم ولأبنائهم، ويعتدّ الأب بذلك ويفاخر أمام أبنائه بتوفير السكن، وهي ثقافة أصيلة وتدعو فعلا للفخر، ولكن التغيرات التي حدثت لمجتمعنا السعودي أصبحت أكثر تعقيدا، فالأسرة الممتدة التي كانت تشمل سكن الجد مع أبنائه وأحفاده تراجعت في المدن، وأصبح استقلال الابن في المسكن حتميا في كثير من الحالات، سواء كان ذلك لدواعٍ اقتصادية أو بسبب الخصوصية.
المشكلة تكمن في المعاناة التي يتكبدها هؤلاء المواطنون في الحاجة إلى توفير سكن قد تصل تكلفته إلى 5 ملايين ريال، وقد تترتب عليه قروض تستهلك من صحته ورفاهيته ورفاهية عائلته.
بالمقابل فهناك آباء يضعون أولوية الاستثمار في تعليم الأبناء وتهيئتهم للنجاح في المدن قبل الانشغال بتوفير المسكن الخاص، وهو ما يجب أن يكون له الأولوية على توفير المسكن الخاص الذي قد لا يعود على الابن بالشيء الكثير، بل إن ثقافة الاستثمار في التعليم، سواء كان من خلال البعثات التعليمية الداخلية أو الخارجية أو الدورات التدريبية أو من خلال التربية العائلية التي تعزز ثقافة النجاح والتفوق، هي التي تحقق عوائد مالية مستدامة تخدم الابن وعائلته بل وتبني المجتمع، وهذا لا يمنع ذاك، ولكن الأولويات قد تفرض نفسها.
من حق الناس أن تتملك المساكن، ومن حقها أن تنتقل من المساكن المستأجرة، ومن حق المواطنين بمؤسسات الدولة السعي في حل أزمة تملك المساكن، ولكن من الخطأ اعتبار الإيجار أمرا يدعو إلى الخجل أو حتى الإحباط أو يستدعي المغامرة بكل ما يملكه الفرد لإيجاد مسكن خاص على حساب فرص تعليم الأبناء أو حتى تعليم الذات، وعلى فرص الرفاهية في الحياة الشخصية، فهذه الثقافة تسبب الكثير من الضغوط لأصحابها.
إيجار المساكن شكّل حالة جديدة في الثقافة السعودية بعد التغير الصفري الذي أخرج أغلب السكان من الحياة التقليدية إلى الحداثة، فالحياة السابقة للسعوديين كان لها سمات مختلفة، منها ربط امتلاك الأرض بالعار، وهي ثقافة منتشرة في أغلب المجتمعات التقليدية من حول العالم، ولذلك نجد ارتباط كثير من المواطنين المقيمين في المدن مستمرا مع قراهم القديمة، سواء كان ذلك لزيارة المقيمين هناك أو كان من خلال تبريرات مختلفة، منها احتمال العودة إلى الحياة التقليدية التي يمكن فيها الاعتماد على المجتمع التقليدي الصغير، ومنها التوجس الموروث من المدينة الجديدة. وهي مبررات غير صامدة دائما، حيث إن النظام الجديد للدولة أصبح كيانا راسخا في المستقبل، وهو يزداد تقدما وعمرانا من خلال التعليم الذي يجب أن نجعله على رأس الأولويات، وهو ما يفرض الحاجة أيضا لاختيار المدينة باعتبارها ساحة للبناء والحياة المتطورة، وتظل الخيارات الشخصية حقا مشروعا للجميع.
كما أنه ورغم الكثير من الجدل إلا أن فرص العمل والتعليم في السعودية عالية جدا وما زالت مستمرة في النمو، ولكنها قد تتطلب بذل الكثير من الجهود مع امتلاك المعرفة اللازمة لذلك، فالمسألة ليست فقط الحصول على الشهادة العلمية ثم انتظار الوظيفة، بل الرغبة أولا في الكفاح والتفكير بعقلية الحل والبحث عن الفرص بكل الخيارات المتاحة، وهي الثقافة المنتشرة بين الكثير من الفقراء والأغنياء وحتى لدى الطبقات الكادحة في مختلف المجتمعات ممن تمكنت من الصعود إلى أعلى الدرجات من خلال الاستثمار في التعليم.
إن دفع تكاليف باهظة لتعليم ابن أو أكثر ولكي يصبح مهندسا أو طيارا أو طبيبا ناجحا ومتفوقا في مجاله، أو غير ذلك من مجالات، مع دعمه المادي لامتلاك كل المهارات اللازمة، وضمان شعوره بامتلاك احتياجاته الأساسية وانشغاله بالتعلم المستمر، لهو أرقى أنواع الاستثمار التي يسهل لنا أن ننجح فيها من خلال الاهتمام والحب.