كل بلد في هذا العالم يحتفل بيوم واحد خلال العام إحياء لذكرى استقلاله أو توحيده أو نشأته، ويندر أن نجد بلدا يحتفل يومين متقاربين في شهر واحد بوطنه؛ لكن هذا ما حدث يوم 15 سبتمبر الماضي الذي تحول من دعوة حمقاء للإساءة للوطن بالخروج تحت ما يسمى «بالحراك»، إلى احتفال محبة عظيم وامتنان كبير لهذا الوطن وتجديد ولاء لقادته سيجد الشعب نفسه مستمرا فيه حتى يوم السبت القادم الثالث والعشرين من سبتمبر في ذكرى اليوم الوطني السعودي السابع والثمانين. كان ذلك الحراك الذي نادى له خفافيش ظلام تنكرت لهذا الوطن وتعاونت مع من يريد لوحدة الصف والأمان الذي تنعم به البلاد درسا قاسيا لأولئك المأزومين، ورسالة واضحة لكل العالم أن هذا الشعب يحب وطنه ويلتف حول قيادته ويؤمن بها، ولن يتوانى عن حماية أرضه عند أي اختبار أو محك قد يحدث عرضا أو بتدبير من الحاقدين.

كان يوم 15 سبتمبر تأكيدا لمفهوم الوطن والوطنية التي يجب أن تعزز أكثر في نفوس النشء، خاصة مع الالتباس الذي عاشه كثير من أبناء هذا الجيل حول الوطن كمفردة ومعنى، والذي حورب ذكره قبل عشرات السنين في المدارس وخارجها -وما زال يخجل البعض من ذكره- عن طريق منع النشيد الوطني، وخلو المناهج من معايير الوطنية التي يجب أن يعمل بها كل أفراد الوطن ويراعي حقوقها، وكذلك انتشار مفاهيم تناقض فكرة الوطن الواحد والولاء له مثل مفهوم الوحدة العربية والأمة الواحدة والخلافة الإسلامية، وجعلها أهدافا يعيش الفرد للوصول إليها على حساب الأرض التي يقيم عليها والقيادة التي يدين لها بالبيعة والولاء.

حينما نتحدث عن الشعور بالوطنية الذي طغى على أفراد هذا المجتمع في محك الحراك المزعوم يوم الجمعة الماضي؛ فهو مع تعدد واختلاف فهم الناس لمعناه شعور وجداني بالمحبة والولاء تجاه الوطن، ودافعية ذاتية للعمل بإيجابية. هذه المشاعر بقدر ما هي سامية ونبيلة في أهدافها وجاءت عفوية وصادقة في وقتها، فإنها وحدها لا تكفي ولا تفي مع بعض الأمور المهمة في حياتنا مثل الوطن، فالوطنية لا بد أن تسير جنبا إلى جنب مع ما يسمى بالمواطنة «Citizenship»، وهي تشكل الجانب السلوكي تجاه الوطن ولا تقل أهمية عن الجانب الوجداني السابق الذكر. المواطنة تتمثل في إحساس الفرد بمسؤوليته تجاه الوطن، وتتجسد في عدة صور سلوكية فردية أو جماعية كالالتزام بالمبادئ والقيم الاجتماعية، والمشاركة في حماية الوطن وعيا بما يحيط به من فتن ومحاولات للإخلال بأمنه وسلامته بالتحريض والتأليب والتشويه، وحمايته عملا بالمشاركة الإيجابية في رقيه وتطويره بالتعلم والعمل والنهوض به بالطرق السلمية والحضارية التي تجعله في مصاف العالم المتقدم، وبصورة تعكس فهما واضحا بحقوق وواجبات المواطن والوطن. ومن المهم أيضا ضمن قيم المواطنة الأصيلة الوقوف مع الوطن وقيادته في كافة الظروف التي يمر بها، والمساهمة في تحسين صورته والدفاع عنه وزرع هذه القيم الصالحة في نفوس النشء وتعزيزها منذ صغرهم قبل أن تمسها يد أي تشويه محتمل في زمن الصراعات المفتوحة الذي نعيش فيه.

إن التأكيد على أهمية زرع قيم الوطنية والمواطنة وتكراره بشكل دائم، سواء أكانت الدولة تمر بأزمة ما أو من دون أي أزمات، أمر في غاية الأهمية. وتوعية الشباب الذي يستغل بعض ضعاف النفوس حماسهم وقلة وعيهم واندفاعهم نحو الشعارات الثورية والمزاعم الجهادية ضرورة يتقاسمها المنزل والمؤسسات التعليمية والاجتماعية والأمنية والإعلامية وأفرادها. حاجة الإنسان للاستقرار في أوطانه والشعور بالأمن والسلام النفسي في الأسرة والصحة والوظيفة ومع المجتمع، وضمانه استمرار موارده المالية وأمن ممتلكاته، هي مجموعة أمور مصيرية تأتي مباشرة في المرتبة الثانية في هرم ماسلو الشهير لاحتياجات الإنسان بعد الاحتياجات الفسيولوجية، كالأكل والنوم والتنفس والماء وغيرها، فالخائف أو المشرد لن يجد الراحة في الحصول على طعامه وتحقيق توازنه الفسيولوجي مع انعدام الأمن، ولن يهتم لبقية مراتب سلم الاحتياجات كاحترام الآخرين وتحقيق النجاح وتكوين الصداقات وما شابه وهو مشرد أو خائف. هذا الاختلال في توازن احتياجات الإنسان هو ما تورثه الفوضى التي تحل بالأوطان مع مزاعم الثورات والدعوة للمظاهرات والخروج على الحكام، وهو للأسف ما حل بكثير من البلدان العربية بعد عاصف من الخريف العربي الذي ما زالت تئنّ من وطأته بعضها ويعاني كثير من مواطنيها من التشرد والخراب والحاجة لأساسيات الحياة الأولية، من مأكل ومشرب ودواء واستقرار.

سيحل اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية بعد أيام، ويحق لنا أن نحتفي به مجددا كما يستحق، ونجدد العهد له ولقيادته بالإخلاص والمحبة والدفاع عنه وحمايته قولا وفعلا، والعمل على تطويره وبنائه يدا بيد نمثل قيم الوطنية والمواطنة كما يليق بمحبتنا له وكما يستحق بعظمة اسمه ومكانته في العالم.