عدّوني معجبة ببريطانيا وشعوبها أولئك الذين آمنوا بقدرتهم مع قياداتهم على إحداث التغيير دون المساس بأمن وطنهم والضروريات الخمس: الدماء والأعراض والمال والنفس والعقل.

لقد ارتقت هذه البلاد العظيمة في سلم الحضارة بهدوء وصبر ورقي، بينما على الجهة الأخرى من بحر المانش سالت أودية من الدماء ومر أكثر من قرنين من الخوف والقهر حتى أدرك الفرنسيون أن التغيير يأتي بطريقة أخرى ليس من بينها نحر الناس في الشوارع.

على كل حال الثورات ليست فقط مظاهرات، هناك ثورات لا تخرج إلى الشارع، ولا حتى ترفع صوتها في تويتر، لكنها تتسم بكل ما تتسم به الثورة من جنون وانتهاك وتصنيف تخاف فيه حتى من نفسك.

وبما أننا نخاف هناك مشهد في رواية قصة مدينتين لتشارلز ديكتز بقي معي دائما لا يفارقني وهو عندما تقوم مدام ديفارج بغزل قميص من الصوف لا يعلم أحد أنه يحتوي أسماء من ينوي غضبها أن يغتال من رجال الأرستقراطية الفرنسية، ذلك الصمت وهي تغزل لباريس قرونا من الموت والدماء كان مخيفا جدا لدرجة الدهشة عندما تعلم أن وراءه حقدا جراء قضية شخصية أو حادث دهس أحد الأغنياء لطفلها، لتقود هي وزوجها باريس لقرنين من الموت يقينا منهما أن الأمر يستحق دون مراعاة لخسائر الناس وخياراتهم.

مثل مدام ديفارج الخونة الذين يتحالفون مع الشيطان تحت مبرر التغيير الذي يؤمنون به وينشدونه ويجعلوننا ندفع ثمنه رغم أننا لم نشتره ولم نرده.

هؤلاء يؤمنون أن الغاية تبرر الوسيلة، لكنهم لا يعلمون أن الوسيلة أيضا لديها أهداف أحدها تقسيم بلادهم وزعزعة أمنها، وستحولهم هم أنفسهم إلى حطب لنار يشتعل فيها وطنهم.

في الثورات التي تقام، أيا كان نوعها، لا يوجد فقط مدام ديفارج، بل هناك أيضا الكونت دي ميرابو الفاسد المخمور دائما، والذي تلفظه الدولة وترفض تسديد ديونه، فيقف ضدها زاعما أنه مع حقوق الشعب، وقد يوجد بأشكال مختلفة فلا يقف مع الناس، ولا مع الدولة، بل يقف مع نفسه فيستخدم الورقة الوحيدة التي يملكها وهي ادعاء أنه يعرف أعداء الوطن، ويعرف كيف يجتثهم، لكنه لا يقول كيف أبدا لكن كلماته تقول إن كل مواطن عليه أن ينظر للمواطن بجواره وهو يعتقد أنه خائن وحركي حتى يثبت براءته، فيشيع الكراهية داخل المجتمع وعواصف التخوين، فلا يعود النسيج متوافقا ولا يعود الوطن واحدا.

من ذلك تتيقن من سبب تأخر باريس عن الحضارة قرنين وكيف خرجت إلى حكم قطيع من الفاسدين وقفوا على عروش من دماء وفقر الشعب الفرنسي، ومن ذلك ترجو أن تنتهي عواصف الكره والحقد والاتهام من عالمنا، وأن يتحلى الناس بالقليل من الصبر الإنجليزي في العالم العربي ليصبحوا بلادا عظمى مثل بريطانيا.