قلت بهدوء، ودون أن ألتفت إليها: ابنتكم ناشز.
قال أبوها وهو يعدل طوق جلبابه البلدي: كيف تقول هذا الكلام؟
قلت بحدة: تخرج لزيارة الأضرحة دون أن تقول لي؟
ردت بقدر من الخشونة: إنها معذورة، تلتمس في وجودهم راحة لروحها الشاردة.
كنت أتوقع تلك الإجابة: لكنها تهمل الطهي والكنس والمسح وغسيل الثياب. تهملني شخصيا، وتنفر مني كلما اقتربت منها.
تدخلت والدتها لتهدئ الموقف: تلطف بها يا بني. اعتبرها مريضة، وسوف تشفى إن شاء الله.
كانت تجلس في ركن قريب، لا تتطلع ناحيتنا، تنتحب دون أن يصدر عنها صوت، وقد كانت حريصة على أن تدعك كفيها بثمرة الليمون. رق قلبي لها فتوجهت نحوها، قبلت رأسها بحنان. سقط تحت قدمي كل الكلام الذي سهرت أجهزه للرد عليها.
رنت نحوي، وتناولت يدي وقالت عيناها: خذني معك.
كان العون الذي قابلته في صباها الباكر ما زال يؤذيها، إذ كان يركب فوق كتفيها، ويطلب منها القفز بين الحجرات بقدم واحدة.
كنت مدرس اللغة العربية الذي وقع في هواها، وكانت أنجب تلميذاتي في الثانوي التجاري، حين فكرت في الارتباط بها أخبرتني بوجود العون، وبكونها تعتذر عن أي ارتباط لأنه حرم عليها الزواج إلا بعد أمر منه.
ولما كنت ابن مدينة فقد رفضت هذا المنطق، وأقنعتها بقبول الخطبة، وسوف يختفي من حياتها تماما، ورغم أنه كان يدفعها في ظهرها فترتطم بالحوائط، وتتعثر في السجاد، ويختل توازنها إذا حملت شيئا ثقيلا، فقد نجحنا معا في الانفلات من مكيدة العون الذي لم نره، لكننا أحسسنا بسطوته.
تقول أمها إنها استحمت مرة بماء ساخن في منتصف الليل، فحدث لها فعل الركوب، وهي حين تصاب بذلك يظهر عرق غزير على جبهتها وتصطك أسنانها. وقد جربت معها كل وسائل التصدي لهذا الكائن الغريب الذي يطاردها بجبروته.
لم نذهب لشيخ ولا لساحر، واعتمدنا على قوتنا الذاتية في التصدي لأفعاله. وكنت شخصيا لا أعترف بما تدعي، ولدي يقين أنها تعرضت لمؤامرة خسيسة وهي في صدر شبابها.
وبعيدا عن العائلة ذهبنا لطبيب نفسي، وقع الكشف عليها، وتحدث معها بعد أن طلب مني الخروج من حجرة الكشف ففعلت. أخبرني بعدها وهو يدون حالتها في دفتره، أنها مجرد مخاوف قديمة، ولا يوجد في كتب الطب ما يسمى «العون».
لكنها بعد ثلاثة أشهر من الزواج عادت لها نوبات الشرود، فكانت بعد وقت من الجذب والصراخ العنيف، تهرول نحو المقابر. تواجه الأضرحة القصية، وتمرر يدها على الحدبات المتربة، فتقرأ القرآن، وتظل جالسة حتى يهبط الليل فترجع وحدها.
أخذت يدها وعدت إلى البيت، في الطريق اشتريت عنبا بناتيا وثمار المشمش وبعض البرقوق، دخلت المطبخ لتغسل الفواكه، وتضعها في طبق كبير.
الصرخة التي شقت السكون جعلتني أعدو نحو المطبخ. كانت يدها تمسك السكين من المقبض، والنصل قد انغرس في صدرها.
وحتى بعد مرور خمس سنوات من الحادث الذي سجل كانتحار. مازلت أريد الثأر من العون. ويرتعد جسدي كلما تطلعت إلى صورتها الباكية في صدر الصالون الذي أجلس فيه أحيانا كي أطلب منها الغفران والتسامح.
سمير الفيل – مصر