كان عام 1905 عاماً لا ينسى بالتاريخ البشري، حيث أجريت أول عملية زراعة قرنية ناجحة، واستمر الحلم بالنضوج حتى تمت عملية زراعة أول كلية بعدها بخمسين عاماً.
وقد أطلقت منظمة الصحة العالمية المبادئ العامة لزراعة الأعضاء البشرية عام 1991، والتي أدت إلى تطور ملحوظ لممارسات ومدارك زراعة الأعضاء في العقود اللاحقة، حتى أصبحت عمليات الزراعة تجرى بأكثر من 91 دولة تنتمي لإشراف منظمة الصحة العالمية. قد لا يعلم الكثير من الناس أن المتبرع الواحد يستطيع التبرع بأكثر من 6 أعضاء (كالقلب والكلى والكبد والرئتين والبنكرياس والأمعاء)، هذا بالإضافة للعديد من الأنسجة (كالعظام والقرنية وصمامات القلب)، وبالتالي إنقاذ حياة العديد من الأشخاص. ويكون التبرع من المتوفين دماغياً أو المتوفين قلبياً في خلال 24 ساعة، أو من خلال التبرع بالأعضاء من الأحياء القادرين (مثل تبرع الأقرباء لبعض بالنخاع أو بالأعضاء مثل الكبد أو إحدى الكليتين).
محلياً أشار التقرير الصادر عن المركز السعودي لزراعة الأعضاء، (وهو أهم وأنجح مراكز زراعة الأعضاء بالعالم العربي)، لعام 2015 عن 332 حالة وفاة دماغية بمستشفيات بالمملكة، انطبقت عليها جميع المعايير الطبية لنقل أعضاء المتوفين دماغيا إلى مرضى على قوائم الانتظار، وقد أشار التقرير إلى نتيجة صادمة، وهي أن 70% من الحالات قد انتهت برفض الأهل للتبرع بالأعضاء، وكانت الموافقة فقط في 30% من الحالات، والصادم أيضاً هو أن نسبة الموافقة نزلت إلى الصفر تقريباً في بعض المناطق، ولَم تتجاوز 44% بالمنطقة الوسطى التي حازت على العدد الأكبر من الموافقات... ورغم حصول فكرة نقل الأعضاء على موافقة دينية ممثلة بفتوى هيئة كبار العلماء رقم 99 بتاريخ 1402 إلا أن الأرقام لا تزال تحت المستوى المأمول.
يضطر الكثير من المرضى القابعين على قائمة الانتظار الطويلة لنقل الأعضاء للسفر وزراعة الأعضاء بالخارج، وهناك الكثير من الدول التي امتهنت سابقاً هذه التجارة، ومنها باكستان والفلبين والصين وبعض الدول العربية، حيث يجد لك المستشفى أحد (الفقراء) المعدمين ويتم شراء الأعضاء منهم، (وغالباً إحدى الكليتين) بمبالغ بخسة، ومن ثم زراعتها بعد التأكد من التطابق النسيجي، ونظراً للصرامة المأخوذة مؤخراً في كثير من الدول على موضوع المتاجرة بالأعضاء، فالكثير من تلك العمليات تتم في ظروف سرية، وفِي أماكن غير مؤهلة لإجراء عمليات متقدمة، ورأينا الكثير من المرضى يعودون بمضاعفات خطيرة والتهابات متقدمة أدت إلى وفاة الكثير منهم وخسارة البعض لأعضائهم المزروعة.
يظهر التساؤل هنا، لماذا من السهولة إيجاد متبرع حي (كقريب) ومن الصعوبة بمكان أخذ موافقة الأهل للتبرع بأعضاء قريبهم المتوفى دماغياً، في الحالة الأولى يكون المتبرع صاحب القرار، وبالحالة الثانية تطغى العواطف والربكة والآمال غير الصحيحة على نفسية صانع القرار، ولكي نتجاوز هذه المعضلة التي أخرت تطور زراعة الأعضاء لدينا فعلينا اتباع نهج ما زالت تسير عليه الدول المتقدمة، وسأركز في هذا المقال على النموذج الإسباني، حيث تعتبر إسبانيا رائدة زراعة الأعضاء بالعالم على مدى ربع قرن من الزمان:
-1 إنشاء برنامج وطني تضطلع به وزارة الصحة وتشاركها به وزارات الداخلية والتعليم والإعلام للقيام ببرامج توعية مكثفة وعالية الجودة لتثقيف المجتمع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
-2 ينص القانون الإسباني على أنه يُفترض أن الشخص المتوفى يقبل التبرع بأعضائه، في حال لم يعلن خلاف ذلك عندما كان على قيد الحياة. (وهناك بعض الدول مثل كندا) تقوم بإثبات موافقة الفرد على التبرع بالأعضاء، وإثبات ذلك بالهوية الوطنية (الرخصة مثلاً).
-3 التدريب على التواصل فالهيئة الوطنية لزراعة الأعضاء بإسبانيا قامت بتدريب أكثر من 18 ألف منسق للتواصل والتحاور ومخاطبة أهالي المتوفين.
-4 دعم القطاع الخاص للتوسع في برامج زراعة الأعضاء لاستيعاب عدد أكبر من المرضى.
مما لاشك فيه أن الدعم السامي لخادم الحرمين الشريفين لبرنامج زراعة الأعضاء منذ تأسيسه هو لفتة إنسانية، قامت ولا زالت تسهم في علاج حالات فشل الأعضاء المزمن، وحماية المرضى من البحث عن منقذٍ خارج أرض الوطن، قد يتلاعب بهم ويضعهم تحت قبضة تجار الدم، وينتهي بهم المطاف بالمزايدة في (حراج) زراعة الأعضاء.