كل من رأى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أو درس عنده أُعجِب بعلمه وهديه وسَمْتِه وصدقه ونصحه وورعه وزهده، ووضوحه وصراحته، وثباته، وحسن تعامله مع الراعي والرعية، لا يستفزِّه المتحمسون، ولا يستخِفّه الذين لا يوقنون، ولا يُخْرِجه عن طوره المزايدون، ما يقوله في السر هو ما يقوله في العلن، لأنه يراقب الله، ويحرص على ألا يقول إلا ما يرضي الله، عن عقيدة صحيحة، وعلم راسخ، وهدف نبيل، لعلمه أن ما عند الله خير وأبقى، وأن الدنيا ومن عليها فانية، ولا ينفع عند الله إلا الصدق، وما أريد به وجه الله، وبين يدي تسجيل خاص، لم يحضره إلا اثنان، أجاب فيه شيخنا ابن عثيمين رحمه الله على بعض الأسئلة، وذلك في منزله يوم الجمعة 1418/‏8/‏12 الساعة العاشرة صباحا، وحيث إن هذا التسجيل لم يظهر قبل ذلك، ولما تضمنته الإجابة من فوائد مهمة، رأيت أن أنشر أحدها لمناسبته وفائدته، وقد أذن الشيخ بتسجيل الإجابات لينفع الله بها من يشاء من عباده، وهذا هو نص الحوار المُسجَّل:

(قال السائل: إذا وجد الحاكم المسلم فهل لطائفة من الناس أن تقيم عملا جماعيا دون إذنه أو علمه؟

فأجاب شيخنا بقوله: ماذا تريد بقولك عملا جماعيا؟ فقال السائل: أقصد عملا جماعيا يقتضي الأمر والنهي والسمع والطاعة.

فقال شيخنا: ليس لها أن تفعل ذلك لأن هذا يعني حكومة داخل حكومة، وولي أمر داخل ولي أمر! وهذا يؤدي إلى قيام النزاع ولا بد، لأن الحاكم الذي فوقهم لا يرضى بهذا قطعا أن يكون له مشارك في الحكم في جُزْءٍ من الأجزاء، لذلك نرى أنه لا يجوز ذلك العمل، نعم لو كنا في بلد غير إسلامي والحاكم غير مسلم فلنا أن ننظم شؤوننا على حسب ما يقتضيه ديننا بعد أن نتفق على ترشيح شخص معين ونائب له وما تقتضيه الحال.

[يقصد الشيخ في البلاد الكافرة التي فيها مراكز إسلامية، تبين لهم الأحكام الشرعية من صلاة وصيام ونحوهما]، فقال السائل: هل تبين لنا – جزاكم الله خيرا – حدود العمل الجماعي المشروع تحت سلطة حاكم مسلم؟

فأجاب شيخنا: أنا لا أؤيد هذا أبدا، لا أؤيد أن يقوم حزب معين أو طائفة معينة تحت تنظيمات معينة إلا إذا كان في غير بلاد الإسلام.

فقال السائل: إذا لم يكن في البلد حاكم مسلم وافترق الناس إلى طوائف هل يجوز الالتحاق بإحدى هذه الطوائف لعمل أو لغيره؟

فأجاب شيخنا بقوله: كلمة إذا كان الحاكم غير مسلم، هل تريد أن هؤلاء في بلد كفر يحكمه كافر كبلاد أوروبا مثلا؟ أم في بلد إسلامي؟

فقال السائل: لنقل في الحالين، في حال بلد كافر من الأصل، وفي حال بلد أهله مسلمون والبلد مسلم، لكن غاب الحاكم المسلم فلا يوجد حاكم مسلم.

فأجاب شيخنا: في الحال الأولى كما قلت لك أولا لا بأس أن يقيم المسلمون لهم دائرة معينة تلزمهم بأحكام الإسلام ويرجعون إلى العلماء في هذه الدائرة في أحكامهم الشرعية.

لكن في بلد مسلم يقال إن القائم عليها غير مسلم، هذه مسألة صعبة؛ لأن من الناس الآن من يكفِّر كثيرا من حكام المسلمين، وربما أكثرهم أو كلهم فلا يمكن أن نضبط، إذ إن كثيرا من الناس – مع الأسف الشديد – صاروا يجرؤون، هذا كفر وهذا كافر، ولا يجرؤون لما عندهم من الورع هذا حلال وهذا حرام، مع أن القول بأن هذا كافر أو هذا كفر أشد وأعظم لما يستلزم من إباحة الدماء والأموال والقتال وما أشبه ذلك.

وأنا أعجب من قوم عندهم ورع وعندهم دين لا يجرؤ أحدهم أن يقول هذا حلال أو هذا حرام في ما لم يكن حلالا

أو حراما في شريعة الله، أو هذا واجب وهذا غير واجب لما لم يكن وجوبه في كتاب الله وسنة رسوله، ويجرؤون وبسرعة على تكفير من يرون بغير علم أنه كافر، أو أن هذا العمل كفر بدون علم، ولا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم لأن انصياعهم لهذه الأخيرة أعني التكفير سواء أكان بالعمل أو العامل أعظم خطورة وجرأة على الله عز وجل من القول بأن هذا حلال وهذا حرام). انتهى.

ومن خلال إجابة الشيخ نستنبط ما يلي:

أولا: أن الشيخ يمنع إقامة الجماعات والأحزاب في الدولة المسلمة، لأن ذلك افتيات على ولي الأمر صاحب البيعة الشرعية، ولا يصح أن تكون دولة داخل دولة.

ثانيا: أن الشيخ مع اهتمامه بالدروس والفقه، حريص كذلك على التحذير من الأحزاب والجماعات، وفيه رد على أصحاب الورع البارد، والمنهج الفاسد، الذين لا ينكرون الحزبيات، بدعوى الاكتفاء بالعلم، وكأن التحذير من الأهواء والحزبيات ليس من العلم، فها هو شيخنا ابن عثيمين وهو من أهل العلم الكبار ينكر هذه الحزبيات ويحذِّر منها، بل حذَّر منها قدوتنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ونهى عن التحزب للفرق والجماعات، وقال: (فاعتزل تلك الفرق كلها).

ثالثا: خطورة تربية الأتباع على الجرأة في اقتحام مسائل التكفير بغير علم، في حين أنهم يتورعون عما هو أهون من التكفير، مما يعكس مقاصد هذه التحزبات وأهدافها الخفية السيئة.

رابعا: أهمية الاتزان في الردود، وأن تكون ممن استقام منهجه، فتكلم بعلم وعدل ورحمة، لا ممن اضطرب منهجه، وصار يتكلم بجهل وظلم ونقمة، يفرح بالخصومات، ولا يعيش إلا في الصراعات.