تطالعنا وسائل الإعلام المختلفة بمأساة إنسانية أليمة، عن أقلية الروهينجا المسلمة بميانمار: عشرات الآلاف يفرون بأقدام حافية، يحملون أطفالهم وعجائزهم ومرضاهم ودجاجهم وحيواناتهم الأليفة إلى بنجلاديش البلد البائس المجاور لهم.
وليس الأسى الأليم الذي تشيعه هذه الصور أكثر منه في مشاهد البيوت في القرى المحروقة، ومقاطع الاعتداء الوحشي على بعض الأشخاص، ولا أكثر منه في الدموع المتفجرة من عيون الأطفال والنساء والرجال وهم يحكون بلغة فزعة ووجوه ملتاعة فقدهم وثكلهم وفجيعة الضياع الذي يخطون خطواتهم المرتعدة إليه.
وأعتقد أن السؤال الذي يتبادر إلى وعينا في هذه المأساة، هو علاقتها بالهوية الدينية التي يحملها الروهينجا وهي الإسلام. فالوصف لهم بالهوية الدينية ملازم – في الأحداث - لذكر إثنيتهم؛ فهم «أقلية الروهينجا المسلمة».
وهو وصف قد يُفهَم منه التعريف بهم، على النطاق الدولي، ولكنه لا يقف بالتعريف بهم عند حد الحياد لدى إخوانهم في العقيدة الإسلامية على طول العالم وعرضه، فهو يستجيش التعاطف لهم دينيا. ولا يقف عند حد الحياد لدى من يرى في المسلمين أعداء بإطلاق صفة الإسلام وعمومها.
ولكن مأساتهم ابتعثت -خارج صفتهم الدينية- تعاطفا إنسانيا في العالم كله على النحو الذي تحدث عنه مسؤولون وبرلمانيون في أوروبا وأميركا وأستراليا وصوَّرته وعبَّرت عنه كبريات الصحف والقنوات الغربية ومنظمات حقوق الإنسان. ونالت رئيسة وزراء ميانمار أون سان سوتشي -في غضون هذا التعاطف- هجوم إعلامي وتداولت عديد المواقع الإعلامية الغربية مطالبات بسحب جائزة نوبل للسلام التي حصلت عليها عام 1991 لنضالها السلمي في سبيل الديموقراطية وقت الحكم العسكري، وبقائها تحت الإقامة الجبرية 15 عاما.
وبطبيعة الحال، كان التعاطف مع الروهينجا مضاعفا في العالم الإسلامي، سواء على المستوى الرسمي في عديد الدول العربية والإسلامية، تعبيرا عن الغضب والتنديد بتقاعس السلطات الرسمية في ميانمار عن حمايتهم ومكافحة التمييز ضدهم، أو على المستوى الشعبي الذي عبَّرت عنه، تفجُّعاً ورثاءً وأسى، مواقع التواصل الاجتماعي والمقالات الصحفية وما إليها.
لا نستطيع أن نفصل مأساة الروهينجا في تعلقها بهويتهم الدينية، عما صنعته الجماعات الإرهابية المنتسبة زورا إلى الإسلام، سواء في شرعنتها العنف وسيلة إلى الوثوب على السلطة واحتكارها على مقاسها، أم في انتهاك الآخر المختلف في العقيدة، وخرق كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، غدرا بالمدنيين الغافلين، وهتكا لحرماتهم ومقدساتهم.
إن تفجير تمثال بوذا، في وادي باميان، بأفغانستان بالديناميت عام 2000، من قِبَل جماعة طالبان، حدث لا يمكن التغاضي عنه ونسيانه في خلفية الكراهية البوذية للمسلمين. والبوذية هي قوام الهوية الدينية لـ90% من سكان ميانمار.
وقد تضافر هذا الحدث العدواني مع ما نتج عن أحداث 11 سبتمبر 2001، والأحداث الإرهابية التي تلتها باسم الإسلام، والدعاية المغرضة التي رافقتها ضد الإسلام، حين آل ذلك إلى ظاهرة الخوف من الإسلام «Islamophobia» في العالم، وإلى تعالي صوت اليمين المتطرف، واستدعاء الهويات الدينية. لم تكن ميانمار بمعزل عن ذلك، والأحداث المسجَّلة تخبرنا عن حضور سلطان الرُّهبان البوذيين وتصاعد تأثيرهم على العامة، وتنظيمهم احتجاجات عديدة على تدمير طالبان لتمثال بوذا الذي تقدِّسه الديانة البوذية وتنتسب إليه. وأخذوا ينشرون المعارضة لوجود المسلمين، ويمنعون الزواج منهم، ويغرون العامة والغوغاء في أنحاء البلاد بهم، وينفون الهوية الوطنية عنهم.
وترافق ذلك مع اتهام نخبة الروهينجا بالإسلام السياسي، ونزوعهم إلى إنشاء كيان خاص بهم في إقليم أراخان الغني بالغاز. وهذا نزاع قديم في الإقليم ظهر مع نشأة باكستان بانفصالها عن الهند لسبب ديني، إذ كان هناك رغبة في الإقليم بالإلتحاق بباكستان في عهد مؤسس باكستان محمد علي جناح، كما أن الاضطهاد الديني ضدهم قديم أيضا.
كيف يؤثر السياق الموصوف في السطور السابقة، أعني ما أشاعته الجماعات الإرهابية عن الإسلام في العالم، في إمكانية دفاع المسلمين في ميانمار عن أنفسهم؟!
لم يعد ممكناً للمسلمين الدفاع عن أنفسهم، ولا المطالبة حقا أو ادعاء، بحقوقهم من دون أن يوصموا بالإرهاب، ممن يَقْترف في حقهم أشنع الجرائم، ويجد أذنا صاغية تصدِّق ما يقول وتميل إلى قبوله.
وهكذا وصفت حكومة ميانمار جيش إنقاذ الروهينجا أراخان (Arsa) بأنه «منظمة إرهابية». وقالت إن زعماءه تلقوا تدريباتهم في الخارج، وهو ما تنفيه الجماعة نفيا باتا.
أما المقاومة السلمية السياسية المدنية فهي الأجدى في هذا العصر وأمام قوة دولة يمكن أن يكون رفع السلاح ضدها ذريعة للاقتلاع والطمس والتغييب نهائيا، فليس هذا النوع من المقاومة ثقافة سائغة في معظم مجتمعات المسلمين، وليس لأوساط الروهينجا -تخصيصا- البالغة الفقر والجهل أن تنتجها وتتوافق عليها.
هذه الصورة الإجمالية لأزمة الروهينجا ومأساتهم تدلِّل على الظُلم والاضطهاد الديني والإثني في حقهم، وهو ما يستوجب -من المسلمين والعالم- أشد عبارات الإدانة لحكومة ميانمار، ويتطلب الضغط عليها بعقوبات اقتصادية وسياسية. ولكن تلك الصورة تتيح -في الوقت نفسه- فرصة للتوعية بنتائج ما تقترفه الجماعات المتشددة، المدعية للإسلام والمتسلقة عليه، من أذى على الإسلام والمسلمين جميعا.
ولن يخفى على النظر ما يمارسه المتشددون والمتعاطفون معهم في وسائل التواصل الاجتماعي من استغلال للمأساة في صناعة صور وفيديوهات و«فبركتها» وشحن العاطفة الدينية واستثارتها في اتجاه الدعوة إلى العنف ضد البوذيين والكراهية لهم وإطلاق نفير الجهاد من بعض المتخفِّين منهم، واتخاذ المأساة ذريعة للنيل من الحكومات والشعوب والطعن -كما هي عادتهم- في الضمائر. نعم، لقد استيقظ وعي العديد من نخب المسلمين، على خطورة استغلال العاطفة الإسلامية الذي مارسه بعض المنتفعين والمتسلطين. ولم تكن الخطورة التي وعت تلك النخب فداحتها على غير المسلمين وحَسْب، بل كانت خطورة -بالفعل ورد الفعل- على المسلمين والإسلام في المقام الأول. لكن هذا الوعي لن يجدي -فيما أظن- ما لم يتحول إلى ممارسة ثقافية تؤسس لمجتمع يحترم في ذاته الاختلاف والتعدد، ويحترم بالتبعية اختلاف غيره من المجتمعات. وهي ممارسة يجب أن تتيحها السلطة وتحميها،
إذ لا يمكن لتلك الممارسة الوجود بغير إتاحة السلطة لها واضطلاعها بحمايتها، كما لا يمكن للسلطة أن تؤسس للسِّلم الذي يحمي حتى السلطة نفسها من دون إتاحتها وحمايتها لمدنية مجتمعها.